ثقافات
ممدوح حبيشيآل البيت في الثقافة الشعبية – الجزء الأول
2025.03.29
مصدر الصورة : آخرون
لكم تاريخكم ولنا الخيال: الإمام علي والحصون السبعة
انطلق مسلسل "معاوية" الذي عُرِض على قناة إم بي سي السعودية في رمضان الجاري ليُشعل فتيل جدلٍ قديم متجدد، لم يُثِر مجرد نقاش عابر حول الدراما التاريخية، بل ألقى الضوء على جذور الانقسام المذهبي العميق بين السنة والشيعة، فرغم مرور ما يزيد على ألف وأربع مئة عام على الصراع الذي بدأ مع مقتل الخليفة عثمان بن عفان، ثم تفجر في موقعة الجمل وصفين، فإن هذا الإرث الدامي لا يزال حاضرًا بقوة، يتجلى في السياسة والدين والثقافة، وحتى في الفنون والخيال الشعبي.
لم يكن "معاوية" مجرد عمل درامي، بل كان اختبارًا جديدًا لحساسية التاريخ، حيث انقسمت الآراء بين من رأوه محاولةً لإنصاف الخليفة الأموي وتصويره كـ"رجل الدولة" الذي أعاد الاستقرار للأمة، وبين من اعتبروه تبييضًا لسيرته، على حساب خصومه، وعلى رأسهم الإمام علي بن أبي طالب وأهل بيته. في المقابل، لم يكن الغضب الشيعي أقل حدة، إذ رأى فيه كثيرون إعادة إنتاج للرواية السنية التقليدية التي تُجرّد عليًّا من حقه، وتُبرّئ معاوية من مسؤولية الصراع.
لكن السؤال الأعمق الذي أثاره المسلسل يتجاوز مجرد تصوير شخصيات الماضي، ليطرق بابًا أكثر خطورة: كيف شكّل الصراع السني-الشيعي وجدان الشعوب؟ وكيف تسلل إلى التراث الشعبي، ليعيد إنتاج نفسه في الحكايات والأساطير والملاحم؟
في مصر، التي ظلّت عبر العصور ساحةً تتداخل فيها التأثيرات السنية والشيعية، نجد أن هذا الصراع لم يبقَ حبيس الكتب التاريخية، بل تمدد في الحكايات الشعبية، والأساطير، والمرويات التي تناقلها الرواة عبر الأزمنة، ففي الوقت الذي تُهيمن فيه السير السنية التقليدية على المشهد، مثل سيرة أبي زيد الهلالي وعنترة بن شداد، نجد في الظل نصوصًا خفية تعكس الرؤية الشيعية للصراع، مثل قصة الإمام علي بن أبى طالب (كرم الله وجهه) وفتحه السبعة حصون ومحاربته الهضام بن الحجاف بن عون بن غانم الباهلي، أو "الحصون السبعة" اختصارًا، التي تم طباعتها في عدد من الطبعات الشعبية مثل طبعة مطبعة مصطفي البابي الحلبي والمكتبة الشعبية لسعيد علي الخصوصي، وقد ضمنها خيري عبد الجواد ضمن كتابه القصص الشعبي الجزء الثالث "مغازي الإمام علي"، التي تُصور الإمام علي كبطل خارق يخوض حربًا ضد قوى الشر والجن، أو الحكايات التي تصور الحسين بن علي كنموذج للفارس الشهيد الذي واجه الطغيان الأموي.
هذا التناقض العميق بين الروايتين -السنية والشيعية- لا يعكس فقط وجهتي نظر تاريخيتين متباعدتين، بل يكشف كيف تحول التاريخ إلى أداة لصناعة الهوية، ورسم ملامح الأبطال، وتشكيل الوعي الجمعي. فالحكاية الشعبية لم تكن يومًا مجرد وسيلة للترفيه، بل كانت دائمًا سلاحًا ثقافيًّا، يُعيد رسم الماضي بما يخدم احتياجات الحاضر، ويجعل من الأسطورة مرآةً للصراع القائم، مهما تغيرت وجوهه وأزمانه.
فكيف تسلّل هذا الانقسام إلى وجدان الشعوب؟ وكيف أعادت الحكايات الشعبية المصرية والعربية صياغة هذا الصراع الدامي في قوالب من الخيال والسحر والمعجزات؟ وهل كان ذلك مجرد وسيلة للهروب من الواقع، أم محاولة خفية لتثبيت روايةٍ ما على حساب الأخرى؟
قصة "الحصون السبعة" بين حدود الصدق وآفاق الخيال
قصة الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) وفتحه السبعة حصون ومحاربته الهضام بن الحجاف بن عون بن غانم الباهلي، حكاية فريدة، نسجها راوٍ مجهول عن الإمام علي بن أبي طالب، ربما تكون وصلت إلى مصر عبر راوٍ اختلفت حوله الروايات، يُدعى أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن محمد البكري، قيل إنه عاش في القرن الثالث الهجري، بينما زعم آخرون أنه من رجال القرن السادس، وكعادة تعامل علماء المدونة الرسمية، تم الطعن في مصداقية البكري كراوٍ حيث وصفه الذهبي بـ"أكذب من مسيلمة"، وأورد في "ميزان الاعتدال" قولًا ساخرًا:
"ما أجهله وأقلّ حياءه! لم يُعرف له حديث بسند، لكن تُقرأ كتبه في الأسواق، مثل: "ضياء الأنوار"، و"رأس الغول"، و"حصن الدولاب"، و"الحصون السبعة"، التي تحكي عن حروب الإمام علي ضد الجن".
وما لبث أن انضم إليه القلقشندي والصفدي والسمهودي وابن حجر، فأجمعوا على وصفه بـ"الدجال الذي يحوك الأكاذيب".
سيرة "الحصون السبعة" كانت مختلفة عن سائر السير الشعبية، فبينما بقيت حكايات أبي زيد الهلالي وعنترة تدور في إطار البطولة البشرية، جاءت هذه السيرة تمزج بين التاريخ والمعجزات، مُضفية على الإمام علي قدرات خارقة تفوق حتى معجزات الأنبياء.
حيث تحكي القصة أن جنيًّا مسلمًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشكو ظلم ملك الجان الكفرة، الذي أقام لنفسه صنمًا، وأعدّ له حفرتين: إحداهما "جنة" يكرم فيها أتباعه، وأخرى "نار" يلقي فيها بعُصاته، طلب الجني من النبي أن يخلصهم من ذلك الطاغية، مشددًا على أن الوحيد القادر على هزيمته هو علي بن أبي طالب.
وفي السيرة، يظهر جبريل عليه السلام، ليبلغ النبي بأن الله قد اختار عليًّا لهذه المهمة، فيستحلفه الرسول في أن يقبل الخروج لمواجهة هذا العدو، وهكذا تبدأ رحلة الإمام علي في عالم العجائب، حيث تتداخل الحقيقة بالخيال، وينسج البكري من قصته ملحمة تتحدى قوانين الواقع، حُفظت في الذاكرة الشعبية، وتناقلها الرواة حتى وصلت إلينا.
علي يتحول في المزاج الشعبي إلى بطل أسطوري
يُستخدم مصطلح الأسطورة على لسان الكتاب والباحثين في كثير من الأحيان على غير معناه، حيث يُربط بكل ما يناقض الواقع والحقيقة وحمل الشيء على المبالغة، بينما الأسطورة كما يراها نورثرب فراي، هي:
"نوع معين من القصة، قصة بعض شخصياتها آلهة أو مخلوقات أكثر قدرة من البشر، ومن النادر وجودها في تاريخ الأحداث الماضية، فعملها يحدث في عالم هو فوق الزمن العادي أو سابق له".
ولقد استخدمها الإنسان البُدائي وحاول بها تفسير ظواهر الحياة والطبيعة والكون وحتى النظم الاجتماعية، وهي عند الإنسان البُدائي عقيدة لها طقوسها، كما يؤكد عبدالحميد يونس، حيث يرى أن هذه العقيدة:
"إذا تعرض مجتمعها لتغيير أو تطوير تتفكك وتترسب في اللاشعور لتتحول لشعيرة أو ممارسة أو يعاد صياغتها في حكايات شعبية".
وجميع الأديان كما يذهب خزعل الماجدي:
"تحتفظ بأساطير خاصة بها، إذ لا يمكن أن تنمو الأديان ويزداد تركيبها دون أن تخلق معها أساطيرها الخاصة بها، وقد يقوم البعض، لأسباب أخلاقية أو عقائدية، بحذف الأسطورة من بنية الدين على اعتبار أنها حكايات لا معقولة قائمة على الخيال لا على الحقائق الدينية المعروفة".
وقد ذهب فِراس السواح في تعريفه للأسطورة إلى أنها: "حكاية مقدَّسة مؤيَّدة بسلطانٍ ذاتي. والسلطان الذاتي للأسطورة هنا لا يأتي من أي عوامل خارجة عنها، بل من أسلوب صياغتها وطريقة مخاطبتها للجوانب الانفعالية وغير العقلانية في الإنسان. ولا نزال حتى اليوم، نحن أهل دولة العقل العالمية هذه، نشعر بسلطان الأسطورة يغمرنا كلما وقفنا بين يدَيها دون أن ندري لذلك سببًا".الإمام علي، قد انتقل من مجرد بطل ملحمي يقع في درجة وسطية بين البطل الأسطوري المرتبط بالآلهة أشد الارتباط، فنجده إلهًا لوالدَين من الآلهة، وبين البطل الشعبي البشري الذي يحظى بالدعم من قوى ميتافيزيقية -كما ترى الدكتورة أسماء عبدالهادي- إلى بطل أسطوري بالمعنى الإلهي للمفهوم خاصة بعد ما أضيف إليه من طبقات ألوهية من العقيدة والثقافة الشيعية، كما اقترح.لذا، من المهم هنا أن نتوقف عند التفريق بين الأسطورة وبقية الحقول الأدبية المتاخمة، فإن الفرق بين الأسطورة والحكاية الخرافية هو اعتماد الأخيرة على أبطال رئيسيين من البشر أو الجن في حين أن أبطال الأسطورة هم الآلهة أو أنصاف الآلهة، والحكاية الخرافية تكون مثقلة بالخوارق والمبالغات في حين أن الأسطورة تعبر في تساوق عميق عن حركة الآلهة والطبيعة ومسرى الأحداث، وتكتسب الأسطورة موقعًا دينيًّا مقدسًا، في حين لا ترقى الخرافة إلى هذا الموقع ولا تمتلك علاقة عضوية مع الدين. أما الحكاية الشعبية فهي لا تحوي دور مركزي للآلهة، هي مجرد حكاية عادية لا تحمل طابعًا مقدسًا أو دينيًّا، بل تُوصف بأنها حكاية دنيوية بسيطة، جل اهتمامها باليومي، وليس القضايا أو الموضوعات المصيرية الكبرى التي تُعنى بها الأسطورة. أما الملحمة فهي حكاية طويلة تتميز بالاسترسال والإسهاب، وتُنْظَم في الغالب شِعرًا، ويكون البطل الملحمي إنسانًا خارقًا بعكس البطل الأسطوري الذي هو إله أو شبه إله، وتبدو الملحمة مزيجًا من الأسطورة والحكاية الشعبية تحكي أعمال البطولة التي تصدر في العادة عن بطل رئيس واحد، وكثيرًا ما يكون لها مغزى قومي واضح، بينما ما يميز الأسطورة أولًا وأخيرًا جوهرها الإلهي المقدس واتصالها بالمصائر الكبرى.والقارئ لمغازي وسير الإمام علي الشعبية يجد نفسه أمام حقيقة تتكشف مع المضي قدمًا في القراءة والتحليل، هي أن الجماعة الشعبية قد نقلت الإمام علي من خانة البطل الملحمي كحمزة البهلوان أو علي الزيبق أو حتى عنترة والظاهر بيبرس، إلى بطل أسطوري هو نصف إله وأحيانًا أخرى هو أقرب إلى إله كامل متجسد فقط في صورة بشرية. الفتى
الأسطوري يقتحم الحصون السبعة
بداية المغامرة تنطلق من المسجد النبوي حينما يأتي أحد الجن المسلمين، يُدعى عرفطة بن شماخ، شاكيًا إلى النبي محمد، ما يتعرض له قومه من اضطهاد على يد الجن الكافرين، بقيادة الملك الجبّار الهضام بن الحجاف، ويأتي الوحي جبريل ليخبر النبي الكريم باختيار علي للقيام بهذه المهمة والخروج في هذه المغامرة، ناشرًا الإسلام ومنهيًا للكفر بين قبائل الجن.
فيجتاز علي أرض اليمن ويواجه سبعة حصون منيعة، يحرس كل واحد منها أحد الجبابرة الكافرين، وتُفصِّل السيرة كيفية انتصار الإمام في كل مواجهة، ناشرًا الإسلام بين الجن، حتى انضم إليه بعض قادة الأعداء، مثل ناقد بن الهضام والرغداء بنت الخطاب.
وعلي كنصف إله لا بد له من بطل ضد مُمَثَّلًا في إبليس نفسه، فحينما يبتكر علي المنجنيق لحصار حصن الهجام، يواجهه إبليس بتعليم أعدائه صنع منجنيق مماثل، لكن عليًّا يتمكن بدهائه من التسلل عبر ثغرة في السور والاستيلاء على الحصن.
وتأتي المواجهة الملحمية كذروة للسيرة أو الحكاية الشعبية ضد الملك الهضام، الذي حشد جيشًا جرارًا قوامه مئة ألف مقاتل، واجههم عليٌّ وحده. هنا توازي الجماعة الشعبية بين بطولات علي وبطولات شخصيات أسطورية مثل شمشون الجبار وأخيل الإغريقي، ترسيخًا لصورته كبطل لا يُقهر، كما يرى محمد يسري في مقالة له عن الحكاية الشعبية مؤكدًا على تشابهات الحكاية مع قصص دينية سابقة، فحكاية ورقة بن خصيب، الذي رافق الإمام واشترط عليه ألَّا يسأله، ثم خالف الشرط ثلاث مرات، تتقاطع مع قصة موسى والخضر في سورة الكهف، ما يرسِّخ فكرة أن عليًّا يملك علمًا باطنيًّا لا يدركه الجميع، كما تتشابه معركة عليّ ضد الأُسود في رحلته، مع قصة النبي دانيال في العهد القديم، حين أُلقي في جُبِّ الأسود.
أتى هذا النص الشعبي كعدد من السرود الشعبية التي تعزز صورة الإمام علي كبطل مقدّس لا يُهزم، يجمعٍ بين البطولة والسمات الإلهية والإعجاز الإلهي، بطل أسطوري لا تحده حدود التاريخ ولا تسجنه اختلافات رواة الحكايات والأخبار الذين ينتمون إلى المدونة الرسمية، فإن كان ما يمثله معاوية قد غلب في التاريخ الرسمي وسُوِّدت الصحف في فضائله وفي مناقبه هو وعائلته التي حكمت من بعده، فقد تبنت النفوس والضمائر حكايات علي وبطولاته الخاصة وإبداعها المتمرد على حدود الواقع وإكراهات التاريخ.
كأن الجماعة الشعبية تقول: لكم تاريخكم ولنا الخيال.
ترشيحاتنا
