مراجعات
سامح قاسمملحمة المطاريد.. حين ينهض الهامش ليكتب أسطورته
2025.10.27
مصدر الصورة : آخرون
ملحمة المطاريد.. حين ينهض الهامش ليكتب أسطورته
«ملحمة المطاريد» لعمار علي حسن ليست رواية واحدة، إنها ثلاثية مكتوبة بدمٍ ومعرفةٍ عميقة بأوجاع الأرض المصرية، تلك الأرض التي أنجبت أبطالها من رحم الجوع والعرق والصبر، لا من أروقة القصور ولا من مكاتب المدينة. إنك حين تفتح صفحاتها الأولى تشعر بأنك تدخل في سيرة الروح الشعبية وهي تحاول أن تُعيد صياغة معنى لحياتها خارج أعين السلطة والتاريخ الرسمي.
كتب عمار علي حسن هذه الثلاثية بوعيٍ نادر بالتاريخ وبالإنسان، فبدت وكأنها وثيقة عن مصر المخفية، عن أولئك الذين عاشوا في الهامش ودُفنوا في الهامش، لكنهم ظلوا يحلمون بسماء لا تطرد أحدًا. المطاريد ليسوا مجرد فئة اجتماعية أو شخوصًا خارجة على القانون، لكنهم رموز للمنفيّ فينا جميعًا، للإنسان الذي طُرد من عدالة الأرض، فراح يبحث عنها في الحلم، وفي الغابة، وفي الغربة.
منذ الصفحات الأولى يضعنا الكاتب أمام عالمٍ كثيفٍ من الرموز والدلالات: الريف المصري وقد تحوّل إلى أسطورةٍ دامية، والجبل وقد صار وطنًا مؤقتًا للمطرودين من الأرض، والحلم وقد أصبح السلاح الأخير للمقهورين. كل شيء في الرواية ينبض بإيقاع الرفض والمقاومة، وكل سطرٍ فيها يقطر بشوقٍ غامض إلى البراءة الأولى التي فقدها الإنسان حين سلّم قلبه للسلطة.
عن الذين سحقهم القهر
تبدأ الملحمة من عمق الواقع، لكنها سرعان ما ترتفع إلى مستوى الرؤيا. فالكاتب يعيد بناء الميثولوجيا الشعبية المصرية، ويفتح للقراء بابًا على ذاكرةٍ كانت مسكوتًا عنها، ذاكرة البسطاء الذين حوّلهم الظلم إلى مطاردين في أرضهم. في كل جزءٍ من أجزائها الثلاثة، تتسع الدائرة لتتخطى الريف، إلى الإنسان في بحثه الأبدي عن الكرامة، عن وطنٍ لا يُباع ولا يُستباح.
لقد استطاع عمار علي حسن، عبر لغةٍ مفعمةٍ بالشعر، أن يجعل من هذه الثلاثية نشيدًا ملحميًّا للإنسان المقهور. اللغة هنا طقس خلاص، فهي تنبض بالصور القرآنية، بالأمثال الشعبية، بأصوات الجدّات في الليالي المقمرة، وبأغاني الحصادين التي تتحول إلى تراتيل للحرية. في كل جملةٍ، نلمح نَفَسَ المتصوف الذي يرى في الألم طريقًا إلى التطهر، وفي الظلم فرصة لاكتشاف الذات.
في «ملحمة المطاريد» أعاد الكاتب إلى اللغة ملمسها ودفئها الإنسانيّ. نقرؤها فنرى كيف تتلاقى الجغرافيا بالتاريخ، وكيف تنصهر الأسطورة بالواقعية في بوتقةٍ واحدة، لتلد أدبًا جديدًا يزاوج بين الرؤية الاجتماعية والفلسفة.
المطاريد، في ظاهرهم، جماعةٌ مطاردة من القانون، لكن في باطنهم ضميرٌ حيٌّ للعالم. لقد خرجوا من قرى مصر كما خرج الأنبياء من صحراء الغياب، ليعلنوا أن الإنسان لا يمكن أن يُختصر في تهمة أو يُحاكم بنصّ قانون. إنهم أبناء الأرض الذين رأوا أن العدالة لن تُمنح لهم، فاختاروا أن يصنعوها بأنفسهم في الجبل، وهناك -في العزلة، في الجوع، في الخوف- اكتشفوا أن المطاردة الكبرى ليست تلك التي يشنّها عليهم العسكر، بل تلك التي تشنّها أرواحهم ضد ذواتهم.
تتألف الرواية من ثلاثة أجزاء، تتعاقب فيها الأزمنة كما تتعاقب فصول الحياة: الميلاد، والتمرد، والسقوط. لكن هذه الأجزاء ليست محطاتٍ زمنية بقدر ما هي تحولات عميقة في وعي الجماعة والكاتب معًا. في الجزء الأول نرى البذرة -القهر والهرب والبحث عن ملجأ. في الثاني نعيش نضوج الفكرة وتحولها إلى حلم جماعي بالعدالة. أما في الثالث، فتتجلى المأساة الكبرى: انهيار الحلم أمام مرآة الواقع، وعودة الإنسان إلى مصيره الأول- الوحشة والشوق.
ما يميز هذه الرواية أن الكاتب لم يكتبها بوصفه مؤرخًا أو راويًا محايدًا، بل كمن عاشها في دمه، كمن يحمل في قلبه ذاكرة المطاريد. فهو لا يصفهم بحياد، لكنه يتكلم بلغتهم، ويفكر بطريقتهم، ويصلي بأيديهم المتسخة من الطين. وهذا ما يمنح العمل صدقه العميق؛ إذ لا يتحدث عن الفقر ببرود، ولا عن الظلم بتجريد، لكنه تحدث عن إنسانٍ ينزف في النص، يروي حكايته بلهجة من عاشها حتى النهاية.
إن عمار علي حسن، في «ملحمة المطاريد»، لا يكتب عن الفلاحين فحسب، إنه يكتب عن الإنسان المطارد في كل مكان: في المدينة التي تسحقه باسم الحداثة، في الدولة التي تراقبه باسم القانون، في المجتمع الذي ينبذه باسم الأخلاق، وفي داخله الذي يجلده باسم الضمير. وهكذا تتحول الرواية إلى مرآة شاملة، يرى فيها القارئ وجهه الخاص مهما كان موقعه في العالم.
ولأن الملاحم الكبرى لا تُقاس بعدد الصفحات وإنما بعمق السؤال، فإن هذه الثلاثية تطرح سؤالها الأعمق منذ البداية: هل يمكن للإنسان أن يكون حرًّا في عالمٍ صُمّم كي يطارده؟ هذا السؤال هو روح العمل ومحوره، وهو الذي يجعل من «ملحمة المطاريد» رواية لا تنتمي إلى زمنٍ بعينه، لكنها تنتمي إلى كل زمنٍ يُطارد فيه الإنسان نفسه بحثًا عن معنى.
في الرواية، نقرأ الجبل بوصفه ضميرًا، والقرية كعالم مصغر للإنسانية، والمطاردة كرمزٍ للفقد الأبدي الذي يسكن قلب العالم. ومن المدهش حقًّا أن الكاتب استطاع أن يجعل من التفاصيل الصغيرة -رائحة الخبز، طمي النيل، لهاث الفلاحين في الحقول- معادلًا إنسانيًّا للملحمة الكبرى.
إن «ملحمة المطاريد» هي رواية عن الذين سحقهم القهر، لكنها أيضًا رواية عن الذين نهضوا رغم القهر ليقولوا: نحن هنا. ومن هنا تأتي عظمتها، إذ تحوّل الحكاية الشعبية إلى نصّ إنسانيّ شامل، يجعل من الهامش مركزًا، ومن المقهور نبيًّا، ومن الجرح طريقًا إلى الخلاص.
هكذا تبدأ الرحلة: من الطين، من الغضب، من الجبل، من تلك النقطة التي يقف فيها الإنسان بين الظلم والسماء، متسائلًا: هل المطاردة قدرٌ لا فكاك منه؟ أم أن المطارد الحقيقي هو العالم الذي نُصنع على صورته ثم نحاول الهرب منه؟
الانتصار على المحو
ومن هذا السؤال العميق تُولد الملاحم كلها - وتُولد «ملحمة المطاريد»، أصدق حكاية عن مصر المنسية، وعن الإنسان الذي لا يكفّ عن الحلم حتى وهو مطارد في ليله الأخير.
إن كل ملحمة عظيمة تبدأ من وجعٍ مكتوم ظل يتردّد في صدور الناس حتى وجد من يعلنه في كلمات. و«ملحمة المطاريد» ليست استثناءً من هذا الناموس الروحي للأدب الكبير؛ إنها تنهض من جذرٍ إنسانيٍّ عميق، حيث تختلط الأشواق بالغضب، والحلم بالظلم، والوجود بالعدم.
لقد كتب عمار علي حسن هذا العمل كمن يستعيد ماضي أمةٍ تائهة في مرايا القهر، وكمن يفتّش عن خلاصٍ فرديٍّ في خضم الخراب الجمعيّ.
المطاريد رموز لأولئك الذين لفظهم المجتمع، الذين لم يجدوا لأنفسهم مكانًا في الخرائط المصقولة للمدينة الحديثة، فصاروا يسكنون أطراف اللغة كما يسكنون أطراف الأرض.
في هذا العمل، لا تبدأ الحكاية من بطلٍ عظيمٍ أو من حدثٍ جللٍ، تبدأ من الهامش، من أولئك الذين لا تذكرهم الكتب، ولا تُقام لهم تماثيل.
لقد غيّر عمار علي حسن مفهوم البطولة، فحوّله من «الانتصار على الأعداء» إلى «الانتصار على المحو»، وجعل من كل مطرودٍ بطلًا في معركته الخاصة ضد النسيان.
ومن هنا، تأتي الرواية، كإعلان تمرّد على مفهوم الرواية التقليدية ذات الحبكة المستقيمة. فهي تُكتب كما تُكتب الأساطير القديمة: لا تسير وفق منطق زمني، ولكن وفق منطق الذاكرة.
فالأحداث لا تتعاقب بقدر ما تتراكب، كأنها موجاتٌ من بحرٍ واحد تتلاحق على شاطئٍ غامضٍ اسمه «الإنسان».
وفي قلب هذا البحر، يضع الكاتب أبطاله: رجالًا ونساءً وأطفالًا، لكلٍّ منهم حكاية تتقاطع مع حكاية الآخر، كما تتقاطع الظلال عند المغيب.
تتحرك اللغة هنا كما يتحرك النَّفَس في صدر شاعرٍ متعب. لغةٌ مشبعة بالإيقاع، بالجملة الطويلة التي لا تكتفي بوصف الحدث لكنها تغوص في جوهره، كأنها تمارس طقسًا تطهيريًّا للواقع.
الخارجون من جنة المجتمع
في هذا السياق، تبدو الرواية وكأنها تكتب الملحمة الحديثة للإنسان المصري، الإنسان الذي خرج من عباءة الريف، ومن صراعات الأرض والماء، ومن تقاليد الصبر والخضوع، ليواجه مدنًا لا تعرف الرحمة ولا الملامح.
الملحمة، إذن، هي حكاية الإنسان في كل زمن، حين يُقصى ويُجرَّد من صوته ويُترك ليصارع مصيره وحده.
ولذلك فإن عنوان الرواية يحمل دلالته الرمزية: ف-«المطاريد» هم الخارجون من الجنة الاجتماعية، المطرودون من الحظوة والاعتراف، الذين لا يجدون إلا الجبل ملاذًا أو الحلم وطنًا.
لكن عمار علي حسن، وهو العارف بعوالم الصوفية والموروث الشعبي، لا يقدمهم كضحايا فحسب، بل ككائنات تمتلك من الوعي ما يجعلها تحول الألم إلى حكمة.
إن «ملحمة المطاريد» بهذا المعنى هي سفر الخلاص، نصٌّ يبحث في إمكانية النجاة من العالم، لا عبر التمرد وحده، بل عبر الفهم، وعبر المصالحة مع القَدَر الذي لا يُهادَن.
كل شخصية في العمل تحمل جرحها كما يحمل القدّيس صليبه، لا تفرّ لكنها تسير به حتى النهاية، في نوعٍ من التطهير الذي يذكّرنا بأبطال دوستويفسكي وكنفاني.
فالتمزق هنا ليس علامة ضعف، إنه علامة حياة، وهو ما يجعل النص أقرب إلى مرثيةٍ كبرى للإنسان، لا تكتفي بالبكاء عليه، لكنها تُمجِّد صموده وسط الطوفان.
منذ الصفحات الأولى، يضعنا عمار علي حسن أمام العالم الأول للمطاريد: الريف المجهد الذي يشبه صدرًا أنهكه السعال، قرى متعبة تتكئ على حواف الترع والنخيل، ووجوهٌ أكلها الصبر الطويل حتى صارت تشبه التراب في صلابتها وحنوّها معًا.
هناك، في تلك البقعة التي تحدّها الأسطورة، يولد المطرود الأول، يولد كأن ميلاده إعلان صراعٍ مع القدر، لا بداية حياةٍ عادية.
في هذا الجزء، يزرع الكاتب بذور المأساة الكبرى، مأساة الإنسان حين يُلقى في الوجود عاريًا من المعنى.
إن النشأة هنا ليست حدثًا بيولوجيًّا بل ميتافيزيقيًّا، إذ يولد البطل في عالمٍ غير عادل، في مجتمعٍ يقدّس القوة ويزدري الضعف، في أرضٍ تشهد عليه لا له.
وهكذا، يبدأ التمرد بوصفه فطرة، لا قرارًا. فالمطرود منذ البداية لا يملك رفاهية الطاعة؛ إن حياته نفسها فعل مقاومة، مقاومة ضد التجاهل، ضد القهر، ضد ذلك الجدار الخفي الذي يفصل البشر عن إنسانيتهم.
يمتاز هذا الجزء من الرواية بقدرة عمار علي حسن على تحويل السيرة الفردية إلى صورة كونية. فحين يحكي عن الطفل الذي يكبر في ظل الجوع والخيبة، فهو لا يروي عن واحدٍ بعينه، وإنما عن أجيالٍ من البشر المنكسرين الذين حلموا بالعدل فوجدوا أنفسهم في المنفى.
تتعدد الشخصيات في هذا الجزء، لكنها كلها تنبع من تربة واحدة: تربة القهر. فيها الجدّ الذي عاش عمره في خدمة الباشا دون أن يراه يومًا، وفيها الأم التي تنام على رائحة القطن وهي تحلم بأن تصير ابنتها معلمة، وفيها الأب الذي يحمل قلبه على كتفه كما يحمل فأسه، وفيها الصِّبية الذين يكتشفون مبكرًا أن الكرامة تكلّف أكثر من الحياة نفسها.
يُبنى الجزء الأول على إيقاعٍ سرديٍّ متأنٍّ يشبه نبض الأرض؛ لا يستعجل الكاتب الأحداث، بل يتركها تتكوّن كما يتكوّن الندى على العشب، حتى يشعر القارئ أنه يعيش داخل نسيج الحياة لا خارجها.
كل تفصيل في الريف هنا يتحول إلى استعارة، فالماء ليس ماءً فقط، إنه وعد بالحياة، والريح ليست ريحًا إنها نذير عاصفة، والأرض ليست أرضًا إنها رحم أمٍّ لا تملّ من الولادة رغم خيانات الأبناء.
يتبدّى التمرد في هذا الجزء على مستوياتٍ عدّة: تمرد على الفقر، على السلطة، على الموروث، على القدر نفسه. فالناس في عالم المطاريد لا يقبلون مصيرهم صامتين، بل يصرخون -ولو في الخفاء- كما تصرخ الجذور حين تجفّ التربة.
وما يلفت النظر أن هذا التمرد ليس تمردًا فوضويًّا، فهو تمرّد من يريد أن يعرف، لا من يريد أن يهدم. تمرّد من يطرح الأسئلة الكبرى: لماذا وُجدنا؟ لمن هذه الأرض؟ من يملك الحق في الحياة؟
بداية الخسارة
تبدو هذه الأسئلة كما لو كانت صدى لصوتٍ قديم، صوت الإنسان الأول الذي وقف أمام السماء يسألها عن عدلها.
وفي هذا المعنى، يغدو الجزء الأول من «ملحمة المطاريد» حوارًا بين الإنسان والقدر، بين التراب والسماء، بين الصوت وتلاشيه.
من الناحية الأسلوبية، يمزج الكاتب بين النثر واللغة الشعرية الموحية. فالجمل تنساب كأنها ترتّل صلواتٍ قديمة على أرواح الفقراء، والحوارات تأتي محمّلة بما يشبه الحكمة الشعبية المصفّاة من ألم القرون.
إنه لا يكتب عن الريف كما كُتب من قبل، لكنه يعيد إليه بُعده الرمزي المقدّس، يجعله معادلًا كونيًّا لكل أرضٍ تُزرع بالعرق وتُحصد بالدم.
أتى الجزء الأول كنظرة عميقة وطويلة في معنى الطفولة والبراءة في عالمٍ لا يعترف بهما. ومن هنا، يصبح الوعي بالظلم هو الوعي الأول، ويغدو الحلم بالحرية هو الغريزة البديلة. فحين يحرم المرء من الخبز، يكتشف أن الحلم هو خبزه الوحيد.
في كثير من المقاطع، يبدو الكاتب كمن يستحضر طيف طه حسين في «الأيام»، لكنه يذهب أبعد في العمق الإنساني.
فهو لا يصف فقط المآسي، وإنما يحفر في جذورها الروحية، باحثًا عن المعنى الذي يجعل الحياة تُحتمل.
وهذا ما يميز الجزء الأول من الرواية: إنه لا يقدم الشقاء بوصفه مصيرًا حتميًّا، ولكن بوصفه عتبة وعيٍ جديدة؛ فالتمرد هنا هو المعرفة، والمعرفة هي الخلاص الأول.
وعبر هذا المسار، يرسم الكاتب خرائط الوجع الجمعيّ، كأن كل قرية في الرواية هي نسخة من الوطن نفسه، وطنٍ طُرد منه أبناؤه إلى عتمة طويلة، وطنٍ يفتقد العدل كما تفتقد السمكة البحر حين تُلقى على اليابسة.
لكن رغم كل ذلك، لا يخلو النص من نورٍ صغيرٍ يلمع بين السطور، نور الإيمان بأن الإنسان قادر على استعادة كرامته مهما طالت الغربة. إنه نور الأمل الصغير الذي يجعل من كل مطرود نبيًّا محتملًا.
وحين ينتهي الجزء الأول، يشعر القارئ بأن رحلة المطرودين لم تبدأ بعد، وأن ما جرى كان فقط تمهيدًا للعبور الكبير. فالعالم الذي بناه الكاتب ما زال حيًّا، والمأساة لم تكتمل بعد.
بهذا الجزء الأول، وضع عمار علي حسن حجر الأساس للملحمة، حجرًا من لحم الناس ودمهم، من خوفهم وكرامتهم، من موتهم اليومي وصبرهم الذي لا ينفد.
فالنشأة في هذا العالم هي بداية الخسارة، والتمرد هو بداية الوعي، والوعي هو أول الطريق نحو الخلاص المؤجل.
في الجزء الثاني من الرواية، يشتدُّ الخفق في قلب الحكاية. تتفتح الجراح القديمة كما لو كانت أزهارًا سُمِّية في تربة غاضبة. ما كان في الجزء الأول غليانًا صامتًا يتحول الآن إلى انفجار، وما كان وجعًا داخليًّا يصبح صراعًا علنيًّا، بين الإنسان والسلطة، بين الفقراء والسادة، بين الذاكرة والنسيان، بين الدم والعدالة.
لقد اكتمل وعي المطرودين بأنهم ليسوا مجرد أبطال ثانويين في مسرح الحياة، فهم أصل الحكاية كلها. وهكذا يتحول التمرد من طاقة كامنة إلى فعل، يأخذ شكلًا من أشكال الثورة، لا ضد النظام الاجتماعي وحده، ولكن ضد فكرة الظلم ذاتها، ضد تلك «اللعنة القديمة» التي جعلت الناس طبقات، والأرض مزارع للسادة لا للأبناء الحقيقيين.
يبدأ هذا الجزء بمشهدٍ يحمل ملامح الأسطورة، إذ ينهض البطل بعد صدمةٍ كبرى -ربما مقتل قريبٍ أو انكسار حلمٍ- ليكتشف أن الألم لا يُشفى إلا بالعدالة. لكن العدالة هنا ليست المحكمة، وإنما العدالة الروحية التي يحلم بها المقهور حين يرى قاتله ينعم بالخلود.
ومنذ اللحظة الأولى، يدرك القارئ أنه أمام تحوّل جذري في المعادلة الإنسانية للرواية؛ فالكاتب لا يريد أن يقدم صراعًا سياسيًّا مباشرًا، بل صراعًا أعمق: صراعًا بين طبيعة الإنسان وعدمية العالم.
حاملات الذاكرة
وفي هذا الصراع، يبرز البطل ككائنٍ مزدوِج: نصفه جريح ونصفه حالم، نصفه يطالب بالقصاص ونصفه يخشى أن يصير جلادًا بدوره.
تتسع المسافة هنا بين الحلم والواقع، وتبدأ الرواية في استكشاف المساحات الرمادية التي تفصل العدالة عن الانتقام.
من الناحية السردية، يشتد إيقاع اللغة وتتصاعد الأحداث، كأن النص كله قد دخل في نهرٍ جارفٍ لا عودة منه.
يكتب عمار علي حسن هذا الجزء كمن يعزف سيمفونية الغضب، كل جملةٍ فيها نبضةٌ جديدة من الألم المكبوت.
تغدو المشاهد أكثر كثافة، والحوار أكثر احتدامًا، والرموز أكثر وضوحًا. تتكرر صور الدم والماء والظل، كأن الكاتب يعيدنا إلى جوهر الصراع في كل أسطورة: صراع الحياة والموت.
يظهر في هذا الجزء أيضًا حضورٌ قوي للمرأة، لكن حضورها يختلف عن دورها في الجزء الأول؛ فبعد أن كانت الأمّ الحاضنة، والمظلومة الخاضعة، تتحول هنا إلى رمزٍ للمقاومة الهادئة.
النساء في «ملحمة المطاريد» لا يحملن البنادق، لكنهن يحملن الذاكرة. إنهن الشاهدات، اللواتي يعلمن أن التاريخ يُكتب بالدماء لكن يُحفظ بالدموع.
يتحوّل المكان أيضًا في هذا الجزء من مجرد خلفية إلى كائنٍ فاعل. القرى تتنفس غضبها، الجبال تتحرك كأنها تشارك في الثورة، والسماء نفسها تبدو على وشك الانفجار.
في أحد المشاهد، تصف الرواية كيف كانت الريح تمرّ على الحقول كأنها تفتش عن الدم الذي سُفك بالأمس.
هذه اللغة التصويرية تكشف كيف يجعل الكاتب الطبيعة شريكة في المعاناة البشرية، وكأن الأرض لا تنفصل عن أهلها، بل تشاركهم كل خيباتهم وآمالهم.
وما يلفت الانتباه أن الصراع في الجزء الثاني لا يُقدَّم كحربٍ بين الخير والشر في شكلٍ تبسيطي، ولكن كصراعٍ بين وجهين في المرآة.
فالمطرود الذي يرفع السلاح دفاعًا عن حقه قد يجد نفسه على حافة التحوّل إلى قاتل، والجلاد الذي يظن نفسه مطمئنًا في سلطته قد يبدأ في الشكّ حين يرى انعكاس خوفه في عيون المقهورين.
إنها العدالة الملتبسة التي لا تمنح أحدًا الطمأنينة، لأنها عدالة نازفة، تنزف من قلب الأرض والإنسان معًا.
في هذا الجزء، يبدو الكاتب متأثرًا بعمق بالتقاليد الصوفية. فالعدالة التي يبحث عنها المطاريد ليست فقط عدالة أرضية، إنها عدالة كونية، ميزان غيبيّ يتجاوز المحاكم والسجون.
كل شخصية في هذا الجزء تمرّ بامتحانٍ روحيٍّ عسير، كأنها مطالَبة بتصفية قلبها قبل أن ترفع يدها.
ومن هنا، تأخذ الرواية طابعًا صوفيًّا؛ إذ يتحول الصراع إلى مرآةٍ للذات، ويغدو دم المقتول هو دم الروح التي تُطهَّر بالوجع.
تُظهر الرواية في هذا الجزء براعة الكاتب في المزاوجة بين الرمز والتاريخ. فبين سطورها نلمح تاريخ مصر الاجتماعي والسياسي، لكنه يظل متخفيًا وراء لغةٍ أسطورية تحفظ للنص شموله الإنساني.
إنها رواية عن كل أرضٍ يُسفك فيها الدم طلبًا للعدالة، عن كل إنسانٍ يبحث عن خلاصٍ لا يأتي إلا متأخرًا.
ولهذا، فإن صراع المطاريد، هو صراع الإنسان مع ظله، مع جانبه المظلم الذي يرفض النور.
وتبلغ اللغة في هذا الجزء ذروتها الشعرية. فالجمل تومض كأنها ومضات برقٍ في ليلٍ طويل، والعبارات تحمل نغمةً أقرب إلى المزامير منها إلى السرد.
ومن بين السطور، يشعر القارئ أن الكاتب يكتب من موقع الشاهد لا من موقع الراوي، كأنه عاش هذه الوقائع وشرب من دمها قبل أن يسردها.
في خضم هذا الصراع، يولد سؤال جديد في روح الرواية: هل يمكن للدم أن يثمر عدالة؟ هل يمكن للانتقام أن يكون طريقًا للرحمة؟
تتردّد هذه الأسئلة بين الشخصيات لكنها لا تجد جوابًا إلا في الألم نفسه. فالكاتب لا يمنحنا حلولًا، إنه يتركنا في حيرةٍ فائقة، حيث لا خلاص إلا في استمرار الحلم بالعدل، رغم كل ما يسفك من دمٍ على طريقه.
وحين ينتهي الجزء الثاني، لا يشعر القارئ بانتصارٍ أو هزيمة، لكنه يشعر بشيءٍ أعقد: تطهيرٌ غامض يشبه ما يشعر به الصوفي بعد مجاهدةٍ طويلة.
لقد عرف المطرودون أن العدالة لا تأتي إلا من أعماقهم، وأن الحرية لا تُمنح، ولكن تُنتزع بالوعي أولًا. وهكذا، ينتقل النص من المأساة إلى الفلسفة، من الدم إلى الفكر، من الغضب إلى التفكر.
إن هذا الجزء يمثل قلب الملحمة النابض، فهو ذروة المأساة وذروة الوعي معًا. بعده لن يعود العالم كما كان، ولن يعود المطرودون كما كانوا. لقد عبروا من جرحٍ إلى آخر، من ظلمةٍ إلى بصيرةٍ، من الصراع على الحياة إلى البحث عن المعنى فيها.
وفي هذا المعنى، يمكن القول إن الجزء الثاني من ملحمة المطاريد هو المرآة التي يرى فيها القارئ صورته الخاصة؛ فكل إنسانٍ في داخله مطرودٌ ما، وكل روحٍ تحمل نزيفًا مؤجلًا وعدالةً تنتظر التحقق.
ترنيمة عن معنى الوجود
في الجزء الثالث من ملحمة المطاريد، يصل السرد إلى ذروته. لقد مرّ المطرودون بالميلاد والتمرد، ثم عبروا جحيم الدم والعدالة، وها هم الآن يقفون على أعتاب العبور الأخير: العبور إلى الضوء. ولكن أيّ ضوء هذا؟ أهو ضوء الحقيقة، أم ضوء الوهم الأخير الذي يسبق الفجر؟ أهو خلاص الروح أم خديعتها؟
يكتب عمار علي حسن هذا الجزء كمن يختبر حدود الإنسان في احتماله للحقيقة، ويقود القارئ إلى ما وراء الألم، حيث تتجلّى التجربة الإنسانية في أنقاها وأقساها: رحلة التحرر من الخوف.
يبدأ الجزء الثالث بلحظة خفوتٍ غامضٍ، كأن العاصفة التي ملأت الأجزاء السابقة قد هدأت فجأة، لكن الصمت هنا ليس سكونًا، بل توتّر ما قبل الانبلاج.
القرى التي كانت تصرخ صارت تهمس، والوجوه التي كانت تحارب صارت تتفكر، والدماء التي سالت صارت حبرًا يُكتب به المصير.
الكاتب، الذي أمسك في الجزأين السابقين بلغةٍ ناريةٍ مشحونةٍ بالغضب، يخفض هنا النغمة، ليكتب بلسان الحكيم لا الغاضب، وكأن المطاريد قد أدركوا أن خلاصهم لن يكون بالسيف، وإنما بالمعرفة.
لقد اكتشفوا، بعد دورة طويلة من الألم، أن النور لا يأتي إلا من ذواتهم. وفي هذا المعنى، يتحول الجزء الثالث إلى ما يشبه رحلة صوفية كبرى، رحلة تبدأ من الجسد وتنتهي في الروح.
يصبح المطرودون هنا أشبه بالمتصوفة الذين جرّبوا الدنيا حتى ملّوها، ثم قرروا أن يختبروا ما وراءها. هم الآن في زمن الكشف، زمن الرؤية.
وكأن الرواية بأجزائها الثلاثة ليست سوى رحلة من العتمة إلى النور، من المادة إلى المعنى، من الأرض إلى السماء.
لكن الكاتب لا يمنحنا ضوءًا سهلًا، فهو يدرك أن النور لا يولد إلا من رحم الظلمة. ولذلك، يبدأ الجزء الثالث بوقائعَ تبدو في ظاهرها مأساوية: خيانات، انكسارات، تشتت الجماعة، موت بعض الأبطال، هجرة آخرين.
كأن الرواية تعيدنا إلى نقطة الصفر، لتذكّرنا أن الطريق إلى الخلاص لا يكون إلا عبر الخسارة الكاملة. فحين تفقد كل شيء، تصبح أقرب إلى الحقيقة، لأنك لم تعد تملك شيئًا تخاف عليه.
من بين المطاريد الذين نجوا من الدم، يبرز البطل الرئيسي وقد صار شيخًا عجوزًا، يحمل في ملامحه آثار الطريق الطويل. لم يعد غاضبًا، بل هادئًا كما البحر بعد العاصفة. يبدو كمن اكتشف سرًّا لا يمكن الإفصاح عنه بالكلمات.
تتحوّل اللغة في هذا الجزء إلى نشيدٍ طويل. لم يعد الكاتب معنيًّا بوصف الوقائع، بل بإعادة النظر فيها، كمن يقلب صفحات الزمن بحثًا عن المعنى. كأن السرد كله يتحول إلى نظرة طويلة في الوجود ذاته، لا في مصير الأبطال فقط.
تتكرر الرموز: النور، الظل، المرآة، الماء، الطين، والسماء. لكنها تكتسب هنا أبعادًا جديدة، إذ تتحول من رموزٍ للصراع إلى رموزٍ للصفاء، ومن أدواتٍ للمقاومة إلى مفاتيحٍ للفهم.
أحد المشاهد الأكثر رمزية في هذا الجزء هو مشهد العودة إلى الأرض الأولى. فبعد أن تهدأ الأحداث، يعود الناجون إلى قريتهم القديمة، لكنهم لا يجدونها كما كانت؛ فالبيوت خربة، والحقول يابسة، والناس غرباء. ومع ذلك، يشعرون أن المكان ما زال حيًّا بطريقةٍ خفية، كأن روحه لم تغادر.
إن الجزء الثالث من ملحمة المطاريد هو ذروة النضج في المشروع السردي لعمار علي حسن، لأنه يمزج بين الواقع والرمز، بين الفكر والروح، بين القهر والأمل.
إنه ليس فقط نهاية ملحمة، وإنما بداية فلسفةٍ جديدة في الكتابة؛ فلسفة ترى أن الإنسان لا يُهزم ما دام قادرًا على أن يحلم، وأن الضوء ليس غاية الطريق بل طريقه نفسه.
فالمطاريد، الذين بدؤوا رحلتهم مطرودين من الأرض، انتهوا وقد استعادوا سماءهم. لم يعودوا ينتظرون عدلًا في الأرض، لأنهم وجدوا في قلوبهم العدل الأعظم: السلام.
ومن هنا، تتحول «ملحمة المطاريد» من حكايةٍ عن المقهورين إلى ترنيمةٍ عن معنى الوجود الإنساني نفسه، عن عبورنا جميعًا من ظلمة الجهل والخوف إلى ضوء المعرفة والمحبة.