فنون

أسامة عبد الفتاح

مهدي فليفل.. السينما وتغيير العالم

2024.03.03

تصوير آخرون

مهدي فليفل.. السينما وتغيير العالم

 

عالم القضية الفلسطينية واللاجئين حاكم لكل شيء في أفلامه.. لا يكترث بقيود الصوابية السياسية.. ولا يقدم أبطالًا خارقين..

همه الأخير زيادة مبيعات "الفشار" في قاعات العرض.. ولا يعرف ماذا يفعل ببراد بيت وميزانية مليون دولار؛ لأن ذلك ليس عالمه..

يتكون من خليط عجيب فريد، لا شك أنه يصنع زخمًا، ويعطي خبرات غير تقليدية وغير محدودة، لكنه أيضًا يثير الكثير من الحيرة، ويفجِّر العديد من التساؤلات -التي يمكنك اعتبارها وجودية أو فلسفية، لكنها في كل الأحوال وعرة- عن الانتماء والهوية والوطن.

مهدي فليفل، الذي يكرَّمه مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة في دورة اليوبيل الفضي (28 فبراير - 5 مارس 2024)، سينمائي فلسطيني أولًا وأخيرًا، ينحدر من قرية "صفورية" في فلسطين، لكنه وُلد في دبي عام 1979، ونشأ بين الدنمارك، حيث هاجر والداه وهو في التاسعة، وبين مخيم "عين الحلوة" للاجئين بجنوب لبنان، حيث يوجد أهله وأصدقاؤه حتى اليوم، ويعمل حاليًّا بين الدنمارك وإنجلترا ودبي؛ ليصير بمثابة "مُواطن دولي" يملك العديد من الخبرات، لكن تؤرقه أزمة الهوية، ويتساءل كثيرًا عن معنى الوطن الحقيقي. 

كان شابًّا صغيرًا عام 1997 حين زار مسقط رأسه في فلسطين ضمن برنامج لتبادل الطلاب بين الدنمارك والكيان الصهيوني، وضمن محاولاته العودة لجذوره، وكان هذا المكان بالنسبة له -حتى ذلك التاريخ- وطنه الذي انحدر منه جده وجدته، لكنه شعر حينها بأنه ضيف غريب يتم الترحيب به من قِبَل الآخرين في بيته، وهو شعور غريب ظل لا يفهمه أبدًا كما قال في حوار لموقع "قنطرة" نُشر في 22 فبراير 2013، وهيمن عليه الإحساس بأن مخيم "عين الحلوة" هو الوطن، حيث لا يعرف هو أو والداه سواه، حتى جده جاء إليه بعد النكبة وهو في السادسة عشرة فقط من عمره، وظل فيه حتى تجاوز الثمانين دون أن يغادره.

يستحق فليفل التوقف عند مسيرته الخاصة جدًّا بالدراسة والتقييم، فهو -إلى جانب هذا الزخم- مخرج ومنتج ومؤلف وممثل ومصور ومونتير أيضًا؛ أي باختصار: "صانع أفلام" ينتمي بالأساس إلى السينما، ولا تفارق الكاميرا يديه منذ أن كان طفلًا، ولا يتوقف عن التصوير منذ أن قدَّم أول أفلامه كمخرج في مرحلة ما قبل الاحتراف عام 2003، وهو بعدُ في الرابعة والعشرين من عمره، حتى إن بعض أفلامه تسجِّل اعتراضَ عددٍ من مصادره وديًّا على كثرة التصوير ومطالبته بمزاح بالتوقف عنه.

لديه مشروع فنِّي سينمائي واضح يسعى لبنائه والعمل عليه فيلمًا تلو الآخر، في اختيار فني يستحق الاحترام، ولا يُعَد من قَبيل الكلام الإنشائي أو المرسَل؛ لأنه يبني مشروعه بالفعل من عمل إلى آخر، وهناك أفلام تكمل أفلامًا أخرى، وهناك أيضًا عناصر ومصادر وأماكن يتكرر وجودها؛ لاستكمال واستيفاء الأفكار، وإلقاء المزيد من الضوء لتوضيح الرؤية، بحيث تبدو أفلامه في المجمل، إذا أَلقَيت عليها نظرة عامة، مثل: لوحة اكتملت لمسة بعد أخرى ولونًا بعد آخر.. وهناك -على سبيل المثال- "رباعية" من أربعة أفلام هي: "عالم ليس لنا"، و"زينوس"، و"رجل عائد"، و"3 مخارج منطقية"، صُنعت على مدى عِدَّة سنوات، وتبدو كأنها عمل تسجيلي واحد من أربعة أجزاء.

وقد وضعت عنوانًا عامًّا لهذا المشروع هو "سينما المنفى"، والمقصود: ما ترتب على المأساة الفلسطينية من نفي لمدنيين لم يرتكبوا جريمة، ولم يقترفوا إثمًا يستحقون عليه هذا العقاب، لكن ليس بالمعنى السياسي المباشر والمعروف، بل كل ما يتعلق بالقضية وما يتفرع عنها وما ينبثق منها من قضايا ومعاناة وهموم، خاصة تأثيرها على البشر، على الإنسان، وبشكل أكثر تحديدًا على اللاجئين الفلسطينيين، الذين أُجبِروا على ترك أرضهم وديارهم منذ 1948 عام "النكبة"، وتم تهجيرهم قَسرًا إلى عدة مواقع في عدة بلدان منها، وربما أهمها، مخيم "عين الحلوة".. ومن هؤلاء اللاجئين: أهل مهدي فليفل وأصدقاؤه، وقد انقسموا بين كبار يحلمون بالعودة لفلسطين، ويتمسكون بحقهم فيها، وبين شباب يَرغَبون في تغيير واقعهم والسفر إلى أوروبا حتى لو عن طريق الهجرة غير الشرعية.

لهؤلاء الحالمين، خَصَّص فليفل معظم إنتاجه السينمائي كمخرج، إن لم يكن كله.. فقد وقَّع -حتى الآن- على 13 فيلمًا منذ مرحلة ما قبل دراسة السينما وحتى مرحلة الاحتراف، مرورًا بفترة دراسة السينما بالمعهد البريطاني الوطني للسينما والتليفزيون، بواقع فيلم تسجيلي طويل واحد، وستة أفلام تسجيلية قصيرة، وستة أفلام روائية قصيرة، وفي مرحلة الاحتراف، التي بدأت مع فيلم "عالم ليس لنا" عام 2012، صنع كمخرج فيلمًا تسجيليًّا طويلًا واحدًا، وستة أفلام تسجيلية قصيرة، وفيلمًا روائيًّا قصيرًا واحدًا، وكلها عن القضية الفلسطينية وهموم اللاجئين، باستثناء وحيد هو فيلمه الأخير التسجيلي القصير "إِلَفْسينا حبنا" (9 دقائق)، الذي صنعه العام الماضيَ في مناسبة محددة هي اختيار مدينة "إِلَفْسينا" اليونانية عاصمة للثقافة الأوروبية.

ويُظهر ذلك مدى التزامه بقضيته، ولا أقصد هنا القضية الفلسطينية بالمعنى المباشر، بل قضيته هو الشخصية التي يمتزج فيها الخاص بالعام، وتنفتح من الذاتي على دائرة الأهل والأصدقاء، ومن الأخيرة على دائرة "الوطن" -بمعانيها ودلالاتها المختلفة- وتساؤلات الهوية والانتماء والوجود أيضًا.. وفي كل تلك الدوائر يبقى عنده الإنسان أولًا، ويظل أهم وأكثر ما يشغله تأثير المتغيرات والتقلبات السياسية والعسكرية على أبرياء ليس لهم دور أو ذنب فيها، ودائمًا ما يكونون أول من يدفع ثمنها.

لا يكترث بقيود الصوابية السياسية التي تكبِّل غيره وتلوِّن أعمال غيره، بل إنه يُخرِج لها لسانه، فلا حذفَ للسِّباب واللعنات ذات الدلالة، والتي لا يملك أبطاله "الحقيقيون" سواها للتعبير عن يأسهم وضجرهم ومعاناتهم، ولا حرج في الحديث عن المخدرات التي لا يجد البعض سواها ملاذًا مما يمرون به ويعانون منه، أو حتى عن بيع النفس بالمعنى الجنسي عندما لا يوجد حل سواه في وجه الجوع والتشرد، ولا تقديس لأحد، ولا صناعة لتماثيل أو أصنام وهمية لعبادتها، ولا مشكلة في انتقاد الساسة الذين تسببوا بقراراتهم، وربما بسلبيتهم، فيما يعاني منه مواطنوهم من تشتت وفقر وغياب للحريات، فالأولوية عنده -كما أشرت- للبشر وهمومهم وأحلامهم المشروعة. 

وبعيدًا عن التواجد الطبيعي والمعتاد لقناعات وانشغالات وهموم وأرواح وأساليب المخرجين في أعمالهم، فإن فليفل غالبًا ما يكون موجودًا في أفلامه بشكل واضح مباشر، وبنفسه في معظم الأحيان، منذ اشتراكه بالتمثيل في بعض أفلام ما قبل الاحتراف الروائية القصيرة، مثل: "الكاتب" (2007)، و"عرفات وأنا" (2008)، إلى تواجده الحميم في الكثير من أفلامه التسجيلية في مرحلة الاحتراف، إما ممسكًا بالكاميرا أو متحرِّكًا ومتحدثًا أمامها مثل مصادره.. وهناك فيلم "وقَّعت على العريضة" (2018) الذي يتواجد فيه بصوته فقط؛ لأنه تسجيل لمكالمة تليفونية بينه وبين أحد أصدقائه.

عالم "القضية" حاكم لكل شيء في سينما فليفل، بدءًا من الاسم الذي اختاره لشركة الإنتاج الخاصة به وهو "نكبة"، الذي يحيلك على الفور إلى المصطلح الذي تم إطلاقه للتعبير عن هزيمة الدول العربية عام 1948 وما ترتب عليها من مأساة إنسانية متعلقة بتشريد عدد كبير من الشعب الفلسطيني خارج دياره، وظل الفلسطينيون يستخدمونه حتى الآن للإشارة إلى تهجيرهم، وهدم معظم معالم مجتمعهم السياسية والاقتصادية والحضارية في ذلك العام لصالح إقامة دولة الكيان الصهيوني.

يعود كثيرًا للنكبة، ويحفل عدد من أفلامه بلقطات وصور لأحداثها المؤسفة، فهو يعتبرها -مثل غيره من الفلسطينيين- السبب الرئيس للشتات الفلسطيني الذي عانى منه شخصيًّا هو وعائلته، حيث تفرَّق أفرادها بين مخيم "عين الحلوة" وبين الدنمارك ودول أخرى، وما زالوا جميعًا يحلمون بلمِّ الشمل.

ومن "عالم القضية" الحاكم في سينما مخرجنا، تجد كثيرًا الزعيم الفلسطيني التاريخي ياسر عرفات (1929 - 2004)، الذي تتعدد طرق وجوده عند فليفل، وأولها: ظهوره بشخصه في مقطع فيديو، كما يحدث في أكثر من فيلم مع فيديو المصافحة الشهيرة بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين في حفل توقيع اتفاق أوسلو بحديقة البيت الأبيض في واشنطن عام 1993، وهذا الاتفاق مهم بدوره في تلقي أفلامه، التي تحفل بالإشارة إليه، وإلى اعتراض أغلبية الفلسطينيين عليه.

قال في حوار لموقع "لها" نُشر في 22 ديسمبر 2013: إن همَّه الأخير أن يزيد مبيعات "الفشار" في صالات السينما، وإنه ساذج يعتقد أن السينما تستطيع تغيير العالم. وأضاف: "إذا قال لي أحدهم: هذا مليون دولار، وهذا سيناريو وبراد بيت سيكون نجم فيلمك، لا أعرف ما يمكن أن أفعل ببراد بيت.. فهو ليس عالمي".

وأكد أنه لم يتغير، وما زال يشعر بأن المخيم هو بيته. واستطرد قائلًا: "أطلب من أحد الصغار أن يشتريَ لي حفَّاية (أي: شبشب)، أرتدي الشورت وأرافق الشباب هناك، لم أصبح الشخص الآتيَ من الخارج أو الغريب صاحب المستوى المختلف. أنا جزء من الناس هناك، حين يدعوني أصدقائي إلى (الحمرا) لاحتساء القهوة لا أشعر بمذاق الجلسة؛ لأنني أظل أفكر بأنني قد أشرب ألذَّ كوب شاي مع أولاد عمي وبنات عمتي في المخيم".