دراسات
أحمد زكريا الشلقنظام الحكم في سنوات يوليو الأولى 1952-1956 – الجزء الثاني
2025.02.16
مصدر الصورة : ويكبيديا
2) إلغاء الدستور وصدور الإعلان الدستوي
أصدرت القيادة إعلانًا دستوريًّا -يسميه البعض دستورًا- في 10 ديسمبر 1952، ضمنته الأحكام التي ستحكم مصر بمقتضاها خلال فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات، ويمكن أن نضيف إلى الصورة مسألة تولي محمد نجيب قائد الثورة رئاسة الوزارة بنفسه في 7 سبتمبر 1952، ليحكم ومن ورائه مجلس قيادة الثورة مشاركًا وظهيرًا.. وخلال رئاسته لمجلس الوزراء التي استمرت فعليًّا حتى 25 فبراير 1954، رأينا كيف أن عددًا من كبار الضباط شغلوا عددًا من الوزارات المهمة.. كل هذه الإجراءات والتطورات كانت تكشف دون ريب عن أن الضباط يتجهون إلى الانفراد بحكم البلاد.
والواقع أنه لم يكن في وسع القيادة الجديدة، وقد عزلت الملك الذي كان على رأس النظام القائم، أن تستند إلى أحكام دستور 1923 رغم وعدها بذلك، الذي جاء لطمأنة الجماهير بأن مصر ستحكم حكمًا دستوريًّا.. لأن قيام الثورة ذاته شكل "إخلالًا خطيرًا" بالتوازنات السياسية التي قام عليها ذلك الدستور، لصالح التقدم نحو مرحلة جديدة من تاريخ مصر، ومع ذلك فثمة آراء أخرى ترى أن قيادة الثورة كانت تبيت النية على الاستمرار في الحكم.. وأن كل ما سبق كان من قبيل المواقف التكتيكية.. المهم أنه بات واضحًا أن قيادة الثورة قد توصلت -بالتجربة العملية- إلى استحالة تحقيق مبادئها في ظل النظام السابق على الثورة[1].
ومن المهم ملاحظة أنه نتيجة لحل مجلس النواب الوفدي الذي كان قائمًا قبل الثورة، وتوقف أعمال مجلس الشيوخ، عهد بالسلطة التشريعية إلى مجلس الوزراء، وفقًا للمادة 41 من دستور 1923، واستمر هذا الوضع حتى إعلان قيادة الثورة سقوط هذا الدستور، وعالجت القيادة الجديدة -في مرسوم أصدرته في 18 يناير 1953- مسألة دستورية المراسيم التي أصدرتها منذ قيام الثورة في 23 يوليو 1952، وحتى إعلان سقوط دستور 1923 باعتبار هذه المراسيم قائمة من تاريخ صدورها، وهو الأمر الذي كان محل جدل فقهي..
والحاصل أن مجلس الوزراء ظل يمارس السلطة التشريعية منذ 10 ديسمبر 1952 حتى صدور الإعلان الدستوري في 10 فبراير 1953، ذلك الإعلان الذي وضع أسس نظام الحكم الجديد في فترة الانتقال، حيث تضمن هذا الإعلان ممارسة مجلس الوزراء للسلطتين التنفيذية والتشريعية معًا، ورُئي حينئذ أن هذا الأمر أملته الضرورة لعدم وجود البرلمان صاحب الحق الأصيل في التشريع.. وظل دمج السلطتين قائمًا لحساب الجهاز التنفيذي للدولة والذي تسيطر عليه السلطة الجديدة، أي قيادة الثورة.. واستمر مجلس الوزراء يمارس السلطة التشريعية حتى نفاذ الدستور الجديد عام 1956، وقد ذكر أمين هويدي الذي كان قريبًا من عبد الناصر ووثيق الصلة به، في كتابه "مع عبد الناصر" أنه لم يكن يؤمن بالفصل بين السلطات، ويعتبر ذلك مجرد خديعة كبرى.. لأن الذي يمتلك الأغلبية في البرلمان هو الذي يمارس السلطتين معًا[2].
الفقه الثوري وإلغاء دستور 1923
من الواضح أن التخلص من دستور 1923 كان أمرًا تقتضيه عملية تحويل "الانقلاب العسكري" أو "الحركة المباركة" إلى ثورة، فالثورة تقتضي تغيير الأوضاع القائمة بنظم جديدة، وتقتضي تجاوز النظام القانوني القائم الذي يستند إلى دستور 1923، بل إن هناك من رجال القانون المعاصرين من رأى أن سقوط الدستور القائم يتم بمجرد نجاح الثورة وانهيار النظام القائم، دونما حاجة إلى تقرير أو إعلان، والثابت أن مجلس قيادة الثورة كان يستشير مجموعة من أساطين القانون في الإجراءات التي يتخذها، وعلى رأس هؤلاء الدكتور عبد الرزاق السنهوري رئيس مجلس الدولة، ونائبه الأستاذ سليمان حافظ، والدكتور السيد صبري أستاذ القانون الدستورى في جامعة القاهرة.
وكان هؤلاء يشجعون الضباط منذ الأيام الأولى للحركة على تجاوز الدستور والتصدي للأحزاب، على اعتبار أن ما يقومون به هو ثورة وأن للثورة قانونها الخاص، وأن البلاد في حاجة إلى إجراءات ثورية وفقه ثوري..[3] وقد زين الدكتور السيد صبري لزعماء الحركة أن إعلانهم عن تمسكهم بالدستور أمر لا يقيدهم بحرفيته، لأن هذا التمسك فيه كثير من المغالاة، وأن الحركة قامت لتخلص البلاد من الفساد، وأيضًا للتمسك بالحكم الدستوري الصحيح، أي بنظام حكم ديمقراطي يكفل الحريات العامة ويمنع طغيان سلطة الملك ويحقق العدالة لجميع المواطنين.. وأكد صبري أن ما يؤدي إلى سقوط الدساتير على إثر الثورات أو الانقلابات الناجحة أن الشعب هو المصدر الوحيد للسلطة، وأن موافقته على الثورة أو الانقلاب دون مقاومة، تعد تعبيرًا -بطريقة لا تمت بصلة إلى الوسائل القانونية- عن إرادته في إلغاء الدستور القائم[4].
يتصل بما سبق أنه ليس فقط أساتذة القانون المشار إليهم هم الذين أيدوا وعززوا السير في هذا الاتجاه، وإنما كان هذا الاتجاه يحظى بتأييد الأستاذ فتحي رضوان، الذي كان من أبرز قيادات الحزب الوطني الجديد، كما كان وزيرًا مشاركًا في وزارات الثورة الأولى، كذلك كانت قيادة الإخوان المسلمين تؤيد هذا الاتجاه بما قد يتيح لهم فرصة تصدر المشهد السياسي.. وقد ذكر المستشار طارق البشري بحق أنه مهما بلغ عزم الثوار على حماية الدستور -في بيانهم الأول- فلم يكن واقع الحال من شأنه أن يفيد بقاء دستور 1923، إذ جاء خلع الملك بعد أربعة أيام إخلالًا بصيغة التوازن والصراع التي قام عليها هذا الدستور، وأهم من ذلك فإن حركة الجيش ذاتها، وظهور الضباط الأحرار كتعبير سياسي نجم عن التيارات السياسية الجديدة، كل ذلك يفيد على المستوى السياسي العام وعلى المستوى التنظيمي للدولة بأن صيغة دستور 1923 لم تعُد صالحة.. ولعل هذا الإدراك لم يكن متحققًا بين من قاموا بحركة 23 يوليو في الأيام الأولى، ولعله أول ما ظهر على يدي الدكتور السيد صبري بمقالاته، هو ومن يشايعه في رأيه من رجال القانون[5].
لقد كانت هناك أيضًا مخاوف لدى قادة الثورة من أن القوانين والتشريعات الثورية التي كانوا يصدرونها بمراسيم ملكية -قبل إعلان الجمهورية- دون عرض على مجلس النواب المنحل، ستتعرض للدفع بعدم دستوريتها أمام المحاكم، فتصبح مهددة بالإلغاء، فقانون الإصلاح الزراعي الذي يقضي بالحد من الملكية يتعارض مع مواد الدستور التي تقدس الملكية الخاصة ولا تجيز نزعها إلا للمنفعة العامة.. وهكذا كانت كل العوامل والمبررات والمخاوف تدفع بقيادة الثورة إلى إلغاء دستور 1923، فأصدر محمد نجيب، قائد الثورة، بيانًا يعلن فيه باسم الشعب سقوط دستور 1923، وأن الحكومة آخذة في تشكيل لجنة لوضع دستور جديد يقره الشعب ويكون منزهًا عن عيوب الدستور الزائل، وأنه إلى أن يتم إعداد الدستور الجديد ستكون هناك فترة انتقالية تتولى فيها أمور الحكم في البلاد حكومة تراعي المبادئ الدستورية العامة.. كما أكد البيان على أنه لا مصالح شخصية ولا أهواء حزبية بعد اليوم، فالوطن واحد والهدف واحد..[6].
الإعلان الدستورى في 10 فبراير 1953
وبالفعل أصدرت قيادة الثورة في 13 يناير 1953 مرسومًا بتأليف لجنة لوضع الدستور الجديد.. أما بشأن الفترة الانتقالية، فقد أصدرت القيادة إعلانًا دستوريًّا جديدًا (اعتبره البعض دستورًا مؤقتًا) في 10 فبراير 1953، حدد نظام الحكم خلالها حتى الانتهاء من إعداد الدستور الجديد وإعلانه، وقد ذكر سليمان حافظ الذي تولى إعداد مشروع هذا الإعلان، أن عبدالناصر هو الذي اقترح ذلك ونظرًا إلى طول الفترة الانتقالية، رأى ضرورة تحديد سلطات الحكم وإعلان هذا التحديد في عهد مكتوب للناس "حتى يعلموا أنهم لا يحكمون بطريق الطغيان"[7].
لا يعد هذا الإعلان الدستوري دستورًا لأنه لم ينشأ بالطرق المعروفة لنشأة الدساتير، فلم يأتِ كمنحة ولا كعقد، ولا عن طريق جمعية تأسيسية، ولم تقرر الثورة من خلاله أنها تملك السيادة.. وإنما يعد التزامًا سياسيًّا من جانب الثورة تجاه جماهير الشعب، وهو الرأي الغالب.. وكان هذا الإعلان بالغ الاختصار، إذ تكون من إحدى عشرة مادة قدم لها قائد الثورة بأن هذه الأحكام صدرت لتنظيم الحقوق والواجبات، كى تنعم البلاد بالاستقرار الشامل.
ويلاحظ أن الإعلان لم يشتمل على أي تنظيم مفصل أو شبه مفصل لأي سلطة من السلطات الثلاث، وأنه عهد بالسلطتين التنفيذية والتشريعية لمجلس الوزراء، ولم تحظَ السلطة القضائية إلا بمادة واحدة.. وقد تعلقت المواد الست الأولى بالمبادئ الدستورية العامة، فنصت على أن الأمة مصدر السلطات، وعلى المساواة بين المصريين أمام القانون، وكفالة الحريات وحماية الدولة لها في إطار النظام والآداب العامة.. إلخ، أما المواد الخمس الأخرى فتعلقت بتنظيم السلطات في الدولة وأطلقت المادة الثامنة يد قائد الثورة بمجلسه في اتخاذ ما يراه من تدابير لحماية الثورة، وتخويله حق تعيين الوزراء وعزلهم.. وجمعت المادة التاسعة السلطتين التنفيذية والتشريعية في يد مجلس الوزراء، كما أشرنا، كما تم التأكيد على استقلال القضاء عندما قرر في المادة السابعة أن لا سلطان عليه لغير القانون.
ونظرًا إلى الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد، من عدم وجود برلمان يمارس الرقابة على السلطة التنفيذية، فقد عالج الإعلان الدستوري ذلك بأن نص على إقامة مؤتمر مشترك من مجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء، وجعله رقيبًا ينظر في السياسة العامة للدولة ويناقش تصرفات كل وزير في وزارته.. وهكذا أقام الإعلان الدستوري ثلاث جهات مسؤولة عن إدارة البلاد: مجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء والمؤتمر المشترك الذي اتخذ شكل لجنة برئاسة محمد نجيب ضمت خمسة من أعضاء الوزارة ومثلهم من مجلس قيادة الثورة، وكانت هذه اللجنة بمثابة هيئة تنفيذية للمجلسين، تتولى تنسيق التعاون بينهما وتوحيد الرأي في المسائل الكبرى، على أن تعقد مرتين أسبوعيًّا، ويضيف سليمان حافظ الذي كان عضوًا باللجنة المشتركة، أنه بعد فترة بدأت الثقة تهتز بين العسكريين من أعضاء مجلس قيادة الثورة وبين الوزراء المدنيين، وبدأ الخلاف يبرز في الاتجاهات على نحو جعل سليمان حافظ وزملاءه يستقيلون من اللجنة[8].
البقية في المقال القادم...
1- راجع عزة وهبي: المرجع السابق، ص 14-18، طارق البشري: الديمقراطية والناصرية، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1975، ص 14، وكذلك أنور عبدالملك: المجتمع المصرى والجيش، مكتبة الأسرة، القاهرة 2013، ص 16.
2- انظر أمين هويدي: مع عبدالناصر، دار الوحدة العربية، بيروت 1980، ص 84-85، وكذلك عزة وهبي، المرجع السابق، ص 17.
3- راجع مقالات الدكتور السيد صبري عن الفقه الثوري، في صحيفة الأهرام، يوليو وأغسطس 1952.
4- لمزيد من التفاصيل، راجع محمد جابر: المرجع السابق.
5- طارق البشري: الديمقراطية ونظام 23 يوليو (1952-1970)، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت 1987، ص 71.
6- راجع عبدالرحمن الرافعي: المرجع السابق، ص 65-66، وتحليلات مهمة لهذا البيان في محمد جابر: المرجع السابق، ص 56-57.
7- سليمان حافظ: ذكرياتي عن الثورة، دار الشروق 2010، ص 93.
8- راجع محمد جابر: المرجع السابق، ص 69-72، مذكرات سليمان حافظ، ص 27.
ترشيحاتنا
