ذخائر

طه حسين

نَصَّ "خِطبَة الشيخ" رواية طه حسين البكر

2024.05.25

مصدر الصورة : آخرون

تمت الترجمة بواسطة: نَصَّ

نَصَّ "خِطبَة الشيخ" رواية طه حسين البكر

 

كُتبت رواية "خطبة الشيخ" عام 1913، ونشرت لأول مرة على حلقات أسبوعية في جريدة "السفور" ابتداء من 20 اكتوبر 1916 وحتى 19 اكتوبر 1917. وقد تم نشر الرواية مجمعة لأول مرة عام 2017 في طبعة محدودة، مع بداية اهتمام دار الوثائق المصرية بإعادة اكتشاف مذكرات وأعمال طه حسين المنسية. لكن للأسف نفذت الطبعة بعد وقت قصير جدًا، ما أضاع على القارئ المصري والعربي فرصة اقتنائها وقراءتها. لذا تقوم "مرايا" بنشرها هنا، حتى تتيح لقرائها الاطلاع على هذا النص الفريد والهام.

 

نَصَّ الرواية

 

الرسالة الأولى: من إحسان إلى أسماء

لك العتبى أيتها الأخت العزيزة فقد أخلفت موعدك أمس. وتركتك نهب الانتظار من غير أن أقدم إليك معذرة واضحة بينة أو حجة بينة على أني أشهد الله لم أفعل ذلك راضية به أو مختارة له وإنما اضطررت إليه اضطرارًا.

ستعذرينني لا أشك في ذلك حين تعرفين ما حرمني زيارتك أمس بعد طول الفرقة وبعد الشقة وشدة ظمئنا إلى اللقاء.

أسماء. لا تجدي عليَّ فأنا إلى العزاء والنصيحة أحوج مني إلى الجفاء و القطيعة وستألمين حين تعلمين.

إحسان

القاهرة في 10 إبريل سنة 1913 

الرسالة الثانية: من أسماء إلى إحسان

دعي ذكر الخطأ والاعتذار فما أعلم أن بيني وبينك من الكلفة يحملك هذه الشقة ولكن افتحي لي قلبك واظهريني على دخيلة نفسك فقد عرفتك فرحة مستبشرة وأراك منذ اليوم محزونة آسفة ولقد قرأت كتابك وقرأته فما اهتديت منه إلى شيء.

أنت في حاجة إلى العزاء والنصيحة ولو أني ملكت يدي ونفسي لاظلني صباح الغد في القاهرة حيث أستطيع أن أراك وأسمع نجواك وأمدك بما أملك من حنان وعطف. ولكن لنا رئيسًا ثقيل الظل أبغض شيء إليه طلب الإجازة وأحب شيء إليه عسف المعلمات.

أطيلي كتابك وأوضحيه وثقي بأن قلبي خالص لك طول الحياة.

أسماء

الفيوم في 15 إبريل سنة 1913

الرسالة الثالثة: من إحسان إلى أبيها

والدي العزيز

ستنكر كتابي وستتهمه بالقحة والجرأة ولكني أتوسل إليك أن تصطنع الأناة في حكمك وأن لا تظن بي الخروج عليك أو الخلاف من أمرك إنما أريد أن أطيعك عن رأي البصيرة لا عن مخافة وخضوع.

خطبني إليك هذا الشيخ فقبلت خطبته لأنك ترضاه وقد كان من الحق علي أن أمضي أمرك من غير مناقشة ولا جدال ولكنك علمتني حين أرسلتني إلى المدرسة أن الزواج يمس الزوجين قبل أن يمس الأسرة فلا جرم كان من حقهما ألا يقدمها عليه إلا بعد رؤية لا تستحثها العجلة ورضى لا يشوبه الاكراه.

لا أرد قضاءك ولا أعصي أمرك ولكني أتمنى عليك أن تسمح لي ولمن اخترته لي زوجًا أن نتعرف.

دعه يكتب إليَّ ودعني أكتب إليه وراقب إن شئت رسائلنا من كثب فما أحب أنا نستهدف بذلك إلى مكروه.

وتقبل تحية أبنتك الطائعة.

إحسان

القاهرة 14 إبريل سنة 1913

الرسالة الرابعة: من الشيخ علام الجيزاوي إلى إحسان

سيدتي الآنسة

لو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفد شرفي بخطبتك وفرحي بمكاتبتك، فقد زف إليَّ سيدي والدك حفظه الله رغبتك في مكاتبتي فملأ قلبي سرورًا ونفسي غبطة وأنا منذ ذلك اليوم أعيش من المنى في روضة فيحاء ومن الأمال في حديقة غناء قد التقت أشجارها وتفتحت أزهارها وقد غردت فيها الأطيار وجرت من تحتها الأنهار يتأرجح نسيمها بعبير المسك ويلقي فيها الرجل الصالح جزاء ما قدم بين يديه من النسك وكيف لا وأنا منذ ذلك اليوم أعلل النفس بقراءة كتاب سطرته عقيلة العفاف وربيبة الصون، فبارك الله على والدك الكريم وأطال حياته في النعيم المقيم.

وقد اخترت مشروعية الزواج موضوعًا للمراسلة فإذا تفضلت بالقبول فتكرمي بتسطير رأيك الثاقب في هذا الموضوع أجبك إن شاء الله بما تسمح به القريحة الكليلة والله يوفقنا جميعاً إلى الصالحات.

علام الجيزاوي

طالب بمدرسة القضاء الشرعي-قسم عالي

القاهرة 17 إبريل سنة 1913

الرسالة الخامسة: من إحسان إلى أسماء

خطبني إلى أبي مساء الخميس وعرض أبي علي خطبته صباح الجمعة فما عرفت ولا أنكرت ولكني أجبت بصمت عميق تبعته عبرة مرسلة فعزلة متصلة إلى صوم النهار وأرق الليل حتى هون على صباح السبت شدة آلامه فعدت إلى المدرسة كئيبة محزونة وأنا مرسلة إليك كتابي إلى أبي وكتاب خطيبي إلي فاقرأي واحكمي وثقي بأن لي في سداد رأيك وصواب حكمك ظنًا لا يكذب ورجاء لن يخيب.

إحسان

19إبريل 1913

طه حسين

تولوز في 29 يونيه 1916

الرسالة السادسة: من أبي إحسان إلى ابنته

معاذ الله يا ابنتي أن أنكر كتابك أو أصفه بالقحة والجراءة فما أرى إنك تجاوزت فيه القصد أو تعديت الحد إنما تطلبين حقًا ضمنته لك الفطرة وعرفه لك الدين.

ليس لي عليك أمر ولا نهي وليس عليك لي سمع ولا طاعة إنما جعل الله بيني وبينك سببًا ملاكه من قبلي النصح والحنان ومن قبلك البر والوداد وأخلق بكلينا أن يعرف ماله وما عليه.

لست يا ابنتي من هذا الجيل ولست أرضى لنفسي ما نشأ فيه من البدع ولو أن لي أن استأنف الحياة لما رضيت بذلك العهد القديم بدلًا ولكني على ذلك لم أصل من ضيق الفكر وخطل الرأي حيث اعترض حركة الرقي الحديث أو أجعل حياتي الماضية مثالًا لحياتك المقبلة فإن الأيام دول ولكل جيل لون من ألوان الحياة مقدور له ومقصور عليه.

أرأيت النيل جرى من الشمال إلى الجنوب أم رأيت الشمس سارت من المغرب إلى المشرق أو ليس جعل الله ذلك آية فساد الكون وانتفاض مافي هذا العالم من النظام كذلك يمضي الزمان في سبيله قدماً لا تقف حركته ولا يكر سابقة على لاحقه سنة الله ولن تجدي لسنة الله تبديلًا.

كنا في أيامنا الماضية نرهب آباءنا ونرى لهم علينا حق الطاعة المطلقة لأنهم "زعم لنا العرف" قد منحونا الحياة وأسدوا إلينا نعمة الوجود فلا جرم كان من العقوق وكفر النعمة أن ننكر عليهم أمرًا أو نرد لهم قضاء أما الآن فقد تغير العرف واستحالت الحال وأصبح أبن العصر يرى أباه مدينًا له بكل ما يحتاج إليه طفلًا وشابًا حتى إذا بلغ أشده واستقل بأمره حيًا شاكرًا وانصرف عنه راضيًا مسرورًا.

ليكن هذا الرأي حقًا أو باطلًا لن أؤمن به ولن أراه لي رأيًا وأن كنت قد أخذت نفسي بالإذعان له لأنه صاحب الدولة والسلطان ولقد بعثتك يا ابنتي إلى المدرسة وأنا أعلم أنها ستبعد مسافة الخلف بيني وبينك في فهم الحياة و تدبرها فأنا أجني الآن ما غرست يداي غير آسف له ولا نادم عليه.

خطبك إليَّ علام فقبلت خطبته لا لأني أرقب نفعه أو أرهب ضره فقد تعلمين أني والحمد لله بنجوة من الحاجة إلى الناس بل لأني رضيته لك زوجًا حين عرفت فيه إباء النفس وذكاء القلب إلى حسن السيرة وطهارة الضمير.

تريدين أن تعرفي زوجك فقد أذنت له أن يكتب إليك وأذنت لك أن تكتبي إليه وسأرقب رسائلكما من كثب لا لأني أخشى عليكما الطيش والزلل فأنتما عندي أزكى من ذلك نفسًا وأطهر قلبًا بل أني أحب أن أوثر نفسي بما عسى أن يكون في رسائلكما من صائب الرأي وطريف الفكر على أن ذلك لا يمنعني أن أحدثك بما أعلم من حياة علام الخاصة ومن منزلته الاجتماعية فهو في الثامنة والعشرين من عمره نشأ في أسرة ميسورة تسكن ريف الجيزة وتعيش من فلح الأرض ورعاية الشاء وقد حفظ القرآن حين بلغ الثانية عشرة من عمره فأرسله أبوه إلى القاهرة ليدرس علوم الدين في الأزهر الشريف وأخذ يختلف في هذا المعهد إلى الأساتذة ولم تمض عليه سنون حتى عُرف بين إخواته بالتفوق والذكاء وقد عرف فيه الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه الله حدة الذهن وحضور الخاطر فآثره وقربه وأجرى عليه من أوقاف الحنفية خمسة أرغفة في كل يوم وخمسة وأربعين قرشاً كل شهر وذلك رزق لا يناله من طلاب الأزهر إلا نفر قليل ثم كانت مدرسة القضاء فانتظم في طلابها وسيتم الدرس فيها بعد أشهر ليكون قاضيًا أو أستاذًا.

ستقولين أنه شيخ ولكن لاتنسي أنه شيخ حديث قد سمع إلى درس الدين ورواية اللغة والإلمام بأطراف العلم الحديث وظهرت آثار ذلك في سيرته فهو يُصَّغر العمة ويُقصر الكم ويذهب إلى القهوة ويحسن لعب النرد والشطرنج وقد غالبني فيهما فغلبني غير قليل.

لك يا إحسان أن تقبلي هذا الزواج أو ترفضيه ولكن عليك ألا تقدمي على رفض أو قبول حتى تجيدي الفكر وتنعمي النظر وتطيلي الروية، وأنا أرجو أن يسدد الله خطوك ويهديك إلى قصد السبيل، وتقبلي تحية والدك الشفيق.

سيد رحمي

القاهرة إبريل سنة 1913

الرسالة السابعة: من الشيخ علام الجيزاوي إلى صديقه الشيخ زهران فتح الباب قاضي بالمحاكم الشرعية

صديقي المفضال.

 سلام الله ورحمته وبركاته عليك أم بعد

فإني أكتب إليك وقد ابتسم لنا ثغر الدهر وبش لنا وجه الأيام فالقلب ممتلئ سرورًا والنفس مفعمة حبورًا والسعد يقبل علينا راضيًا مستبشرًا والنحس يدير عنا باكيًا مستعبرًا لا رقأ دمعة ولا رئب صدعه فقد طالما جرعنا الصاب وأذاقنا مر العذاب.

لله تلك الليالي الطوال قضيناها ساهدين غير هاجدين جدًا على العمل وترقبًا للأمل في غرفة ضيقة الفناء فاسدة الهواء يكل أبصارنا فيها سقم الضوء وتنهش أجسامنا حشرات الفراش قد طوينا الأحشاء على رديء الغذاء وحرمنا نفوسنا طيبات الحياة دأبًا على الدرس ورياضة للنفس ورغبة في الأثنى من الدرجات الحسنى وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم.

صدق الله لقد صبرنا أجمل الصبر فغنمنا أحسن الأخر والله لا يضيع أجر العاملين وقد قرأت في الصحف اليوم خبر زيادة مرتبك ورقيك درجة في القضاء فأنا أزف إليك خالص التهاني وأتمنى لك حسن الأماني وأرجو أن يوفقك الله إلى ذلك الأمل الذي طالما عللت به النفس من إصلاح القضاء وخدمة الدين.

ومن توفيق الله وحسن المصادفة أن هذا الكتاب لا يشتمل فقط على تهنئتك برقيك بل يشتمل على خبر آخر ستمتلئ له نفسك بشرًا و سينعم به بالك وتقر به عينك وهو أني قد عزمت على الزواج و أخرجت هذا العزم من حيز القول إلى الفعل ذلك لأني حظبت إلى صاحب العزة سيد بك رحمي أبنته فقبل خطبتي وسنُتم عقد الزواج بعد أن تظهر نتيجة الامتحان الأخير في أوائل شهر يوليه المقبل إن شاء الله ولهذا أكون قد أقمت بناء حياتي على أساس متين وذلك لعدة أمور، الأول أن في الزواج كما تعلم عصمة للنفس وصيانة للدين وطالما قد صبرت وتألمت فقد آن الأوان لأجرى من هذا الألم الطويل باللذة الدائمة والنعيم المقيم، والثاني أن صهري رجل غني ضخم الثروة يملك خمس مئة فدان من أجود أطيان المنوفية وليس له إلا ابنته وغلامان غير صالحين فأنت ترى أن حظ زوجتي من الميراث يكون عظيمًا وإن إيرادها لن ينقص في السنة عن ألف جنيه، فمتى كنت أحلم بهذه الثروة على أن في نفسي خاطرًا أكاشفك به الآن لأعرف رأيك فيه وهو أن صهري يستطيع إذا أظهرت له رغبتي أن يقف أطيانه على أولاده بشرط أن تكون قسمة الثروة بينهم متساوية أي لا يكون للذكر كمثل حظ الأنثيين وبذلك يكون نصيب زوجتي من التركة مائة وستة وستين فدانًا وثلثين أي أن إيرادها في السنة يزيد عن ألف وستمائة جنيه ولست أفعل ذلك رغبة في تغيير النص أو العدول عن أمر القرآن والقرار في القسمة الشرعية فإن الوقف كما تعلم مشروع وهو باب من أبواب الفقه ورخصة من رخص الشرع. وأنا أعتقد أن زوجتي أحق بهذه الثروة من أخويها لأنهما غلامان فاسدان ليس لهما دين ولا إيمان فماذا ترى وماذا تقول؟ الثالث أني سأخرج من المدرسة بعد شهرين ومع أني أثق بالنجاح فلا شك في أني سأنتظر شهرًا حتى أحصل على منصب من مناصب القضاء ولا يخفي عليك أن مرتبي في المدرسة سيقطع بمجرد نجاحي وأصبح وقتئذ من غير مصدر للرزق إلا ما يمكن أن يساعدني به أبي مع أنه شيء طفيف فإذا تزوجت فسأعيش في منزل صهري طيب النفس قرير العين حتى أوظف قاضيًا وفي ذلك من الفائدة ما لا يخفي. والرابع أن زوجتي متعلمة تعليمًا حديثًا. فهى حاصلة على شهادة دبلوم المعلمات في المدرسة السنية، وهي الآن معلمة بمرتب قدره اثنا عشر جنيهًا. ومن سوء الحظ أن قانون المعارف لا يسمح للمرأة إذا تزوجت أن تستمر على التعليم ولو كان يسمح بذلك لاستمرت هى في وظيفتها واستمررت أنا في وظيفتي ولأنفقنا مرتبينا في تدبير الحياة وحفظنا إيرادها تنمية للثروة واستثمارًا للمال، على أن الشيء المهم أنها متعلمة وأنها تحسن اللغة الإنجليزية وأنت تعلم أني طالما حرصت على تعلم هذه اللغة لأنها لغة الحاكم فلم أوفق إلى ذلك لضيق الوقت وأنا أرجو بعد الزواج أن تعلمني زوجتي هذه اللغة فأحصل على مزية لا يحصل عليها من طبقة الشيوخ إلا نفر قليل. لم أحدثك عن مركز صهري الاجتماعي وعن ماضي حياته فهو رجل شيخ من رجال النشأة القديمة ساخط كل السخط على هذا العصر الحديث يبغض الناس بغضًا شديدًا وهو رجل ثقيل ثرثار لا يعرف الصمت ولا ينفك يكلمك حتى يسئمك وكل كلامه غيبة وقدح في أقرانه وقد كان من رجال السيف أيام اسماعيل وهو الآن من أصحاب المعاش يلزم الصف الأول في سيدنا الحسين وينفق بقية وقته في الحديث ولعب النرد والشطرنج ومن حسن الحظ أنه قد جاوز السبعين وأنه ضعيف الصحة ليس بينه وبين القبر إلا خطوات معدودة، قد أطلت عليك لكن الصداقة التي بيني وبينك هى التي حملتني على هذه الإطالة فقد تعودنا منذ الصبا أن نقتسم الحزن والسرور وأنا أرجو أن يصل إلي منك بعد حين كتاب طويل ردًا على هذا الكتاب.

 والسلام عليكم ورحمة الله 

 علام الجيزاوي

القاهرة إبريل سنة 1913

الرسالة الثامنة: من إحسان إلى أسماء

لم أكن أحسب أيتها الأخت العزيزة إنك ستلزمين الصمت وثؤثرين السكوت مع ما تعلمين من حرج مركزي واضطرابي فيما أنا فيه من هذا الأمر ولقد كتبت إليك وأنا أرجو أن أجد فيك صديقة مخلصة إن عجزت عن نصحي وإرشادي فلن تعجز عن تسليتي وتعزيتي لا سيما وأنا في هذه الحياة وحيدة ليس لي إلا أب على تسامحه وتساهله يوشك أن يكون خصمي وأم جاهلة لا تفهم عن معنى الحياة إلا تدبير البيت بنظام مشوش أفقُضيًّ عليَّ يا أسماء أن أحتمل وحدي ثقل هذه الحياة.

إحسان

القاهرة إبريل سنة 1913

 طه حسين

ساليس دي سالا

15 يوليه 1916

الرسالة التاسعة: من أسماء إلى إحسان

دهشتي حين قرأت كتابك الثاني –أيتها الأخت العزيزة- وترددي حين تحققت ما جاء فيه هما اللذان أخر إجابتي لك واستوجبا ما تضمنه كتابك الأخير من العتب المر واللوم الأليم.

وفي الحق –يا إحسان- أني قد عرفت خطبتك أقل ما يكون لها انتظارًا فإني لم أقدر في يوم من الأيام أن إحدانا تترك المدرسة إلى البيت وتهجر حياة التأديب والتعليم إلى حياة العمل والتدبير على أني حين تثبت من خطبتك ولم أشك في أنك مخطوبة وأنه عسى أن لا يكون بين الخطبة وبين الزواج أمد بعيد فكرت في الكتابة إليك وأردت أن أجيبك فحال التردد بيني وبين ذلك لأني سيئة الرأي في الزواج وأخشى إن تحدثت إليك فيه أن أخطئ النصيحة وأسيء من حيث أردت الإحسان.

يزعمون –ولهم الحق- أن الزواج أساس الاجتماع، أفليس يجب إن أردنا إصلاح هذا الاجتماع أن نقيمه من الزواج على أساس متين، إذن فالزواج عندنا أوهن من بيت العنكبوت، تُزف الفتاة إلى زوجها اليوم لتفارقه متى شاء وشاء له الهوى من غير أن يكون لها في ذلك رأي ولا اختيار.

لا أنظر إلى الزواج نظر أصحاب الأخلاق وعشاق المثل الأعلى من الفضيلة ولا أرى من الحق على القانون أن لا يقر الزواج إلا أن يكون الحب دعامة له فإن الحب –كما يقول الشعراء- طائر لا يعرف القانون ولا يقع إلا حيث أراد وحين يحلو له الوقوع ولكني أنظر إلى الزواج نظرًا وضعيًا خالصًا وأرى أنه عقد شركة بين الزوجين قد قام على الإلزام والالتزام كغيره من العقود. أفمن العدل إذن أن يكون للرجل وحده أن ينقض هذا العقد متى شاء فإذا أرادت المرأة نقضه قام العرف وأنصاره ونهض القانون ومنفذوه لردها إلى الطاعة وقهرها على الخضوع؟! فمعذرة إليك يا إحسان فإني أعاف الزواج كما هو في بلدنا وأرى للفتاة المتعلمة إذا قدرت نفسها قدرها أن تترفع عنه ولا تميل له.

لو أن للفتاة حق الرؤية والاختيار فهى تختار زوجها وتمضي الزواج راضية غير كارهة لهان عليها احتمال الخطب ولكان لها أن تعزي نفسها إن كذبت ظنها الأيام بأنها قد أقدمت على هذا الزواج غير مرغمة ولا مضطرة وقد عرفت زوجها ودرست أخلاقه قبل أن تختاره قرينًا لحياتها فمن الحق عليها أن تحتمل نتيجة خطأها وتجني ثمرة غرسها. ولكن الفتاة كما تعلمين ليست إلا ضحية لأطماع الأسرة وفريسة لهوى الأباء يبيعونها إلى زوجها بيعًا من غير مشورة ومن غير أن يزنوا رأيها أو يقدروه فإذا مضى العقد وبدأت المرأة تجني ثمره مرًا نفضوا أيديهم وانفضوا من حولها وتركوها نهب البؤس والألم. ستقولين لا زواج إلا بعد رضا ولكنك تعلمين قيمة هذا الرضا، أو ليست تخضع الفتاة لأنواع الألم والعذاب أيامًا طوالًا لتقر أباها على أن يمضي باسمها ما أراد من عقد الزواج؟! وهبي أنهم لا يعذبونها ولا يسومونها في سبيل ذلك ضروب الخسف وأنهم إنما يمضون الزواج في سبيل منفعتها أو ليس مما لاشك فيه أنها أحق من أبيها أن تبلو منفعتها بلاء حسنًا وأن تفكر في مستقبلها قبل أن تقدم على تأسيسه؟! أفتحسبين أنهم يعدونها لذلك أو يؤهلونها له؟ أو ليست الفتاة تقدم على زوجها جاهلة له لا تدري من أمره شيئًا. أو ليست تراه لأول مرة حين لا تملك لأمر الزواج نقضاً ولا حلًا كل ذلك لا يمسك ولا يتصل بك لأنك قد شرطت على أبيك أن تعرفي زوجك وقد قبل أبوك هذا الشرط وأذن لك ولخطبك بالمكاتبة فإذا أقدمت على الزواج فستقدمين عليه بعد علم وروية. ذلك ما ستقولينه لتنقضي ما قدمت ولتبيني لي أنك بنجوة مما أخاف عليك. كلا أيتها الأخت العزيزة فإنهم قد أذنوا لك أن تكتبي إلى خطبك، وأن تقرأي رسائله وأنك قد عللت نفسك بأنك ستجدين في هذه الرسائل نفسه مرسومة وقلبه مصورًا ولكنك تخطئين خطأ عظيمًا. لست أنكر أن الكتابة صورة النفس ولكني أزعم أنك في حاجة إلى مقدرة وتفوق عظيمين لتستطيعي أن تدرسي هذه الصورة وتتبيني خصائصها ومميزاتها وتعرفي ما فيها من خصال الحسن والقبح فإن الكاتب إذا كتب أشد الناس حرصًا على إخفاء عيوبه و إظهار حسناته ومثله في رسالته مثله في زياراته لا يسمح لنفسه أن يظهر كما هو إنما يتخذ من ضروب اللباس وألوان الزينة ما يظهره للناس حسنًا مقبولًا ولو أنهم تكشفوا ما خفي من أمره لجاز أن ترجح سيئاته وتخف حسناته، أفتظنين أنك قادرة على أن تجرديه مما انحل من الصناعة والتكلف لتصلي إلى خلاصة نفسه ودخيلة قلبه؟ وبعد فكيف اختارك خطبك وكيف أراد أن يتخذ زوجًا له؟ إنه لم يرك قط ولم يتحدث إليك وهو لا يعرف من أخلاقك قليلًا ولا كثيرًا ولكنه أراد الزواج وأراد زواجًا يجلب له النفع فبحث عمن يعرف من الأسر التي تستطيع أن تزوجه وسأل معارفه وأصحابه فدلوه عليك ووصفوا له جمالك وثروتك وعلمك فأقدم على الزواج وهو لا يعلم إلا ما سمع، ولست أخشى عليه خطرًا من ذلك فبيده الحل والعقد وله أن ينقض الزواج إذا لم يلائم منفعته وإنما أخشى عليك وحدك الخطر كله فإنك تقدمين على ما لا تعلمين فإذا أقدمت لم يكن لك أن تحجمي فأطيلي الروية وأجيدي النظر.

خطبك شيخ يا إحسان وقد قال أبوك أنه شيخ حديث يصغر العمة ويقصر الكم ويلعب النرد والشطرنج ولست أقيم وزنًا للزي فسواء عليّ ألبس زوجي الجبة والقفطان أم ارتدى رداء الفرنجة إنما أفكر في التربية والتعليم اللذين خضع لهما زوجي وأزن حظه منهما بحظي. أفترين أن تربية زوجك وتعليمه يسمحان له بأن يكون لك عدلًا و قرينًا؟ أو ليست نفسه قد نشأت نشأة خاصة ليس بينها وبينك إلا غاية البعد والخلاف. درس اللغة والدين وتكونت نفسه في الأزهر فهى نفس لا تصلح إلا لتعيش في القرن الثالث أو الرابع للهجرة ونشأت في المدرسة وتعلمت تعلمًا حديثًا وبعبارة واضحة تعلمًا أوروبيًا خالصًا فأنت لا تستطيعين أن تعيشي عيشة القرون الوسطى أفتظنين أن هذا الفرق العظيم يعد لكما حياة وفاق وائتلاف. ترين حرية المرأة وأحسب أنه يرى الطاء المطلقة عليها حقًا ترين أن تخرجي متى شئت وأن تفعلي ما شئت لأنك تثقين بطهارة نفسك وبراءة ضميرك وأنك على عرضك أغير منه على أثرته ويرى فيما أظن أن من الحق عليك لزوم البيت وإنفاذ أمره لا تخرجين إلا لزيارة قد فرضها الشرع وليس لك أن تفعلي شيئًا لأنه قد استبد بكل شيء إنما عليك تنظيف البيت وإعداد المائدة. أفترين في هذا الموضوع من الحياة ما كنت تحلمين به من السعادة.

قرأت كتاب خطبك بعد أن قرأت كتابك فلا تسألي عن دهشي حين قارنت بين الكتابين وأردت أن أميز ما بينهما من الفرق في طريقة التفكير وترتيب اللفظ. كتابك حديث ساذج يعبر عن رأيك من غير تكلف ولا تعمل وكتابه قديم معقد قد ظهر فيه السجع وسيطرت عليه الاستعارة.

ولست أخفي عليك أني اضطررت إلى أن أسأل أستاذ اللغة العربية عن معنى كثير من ألفاظه ولاسيما مشروعية الزواج التي اختارها موضوعًا للرسائل بينك وبينه هى أنك أنت التي ابتدأته بالمكاتبة أفكنت تسمحين لنفسك أن تتعجلي بطلب رأيه في الزواج قبل أن تعرفيه فكيف به وهو يكتب إلى فتاة لعلها لم تسمع عن الزواج كلمة قبل اليوم. أعجبني تسامح أبيك ولكني أحذرك كل الحذر من هذا التسامح فإني أخشى ألا يكون قد اختاره إلا ليتخذه وسيلة إلى إنفاذ أمره من غير أن يضطر إلى قهر أو إكراه.

أحسبني وقد أطلت وأحسبني قد امللتك أيضًا وأخشى أن تكون صراحتي وحريتي في الكتابة بحيث تؤلمك. ولكنك تعلمين أن ما بيني وبينك من الإخاء يجعل لك حق النصيحة الخالصة.

ولست أملك من النصح إلا أن أقول ما أعتقد أنه الحق ولو أني كنت بمكانك يا إحسان لما قبلت الزواج أو بعبارة واضحة لما قبلت هذا الزواج لأني أخشى أن يكون لي مصدر بؤس وشقاء وأرى أني استطيع أن أنفق حياتي في التعليم فأفيد واستفيد أكثر مما أفيد واستفيد لو قصرت حياتي على خدمة زوج لم أبله ولم أدرس من أخلاقه شيئًا على أنك لست طفلة ولك أن تفكري وأن تمضي ما تشائين فأقدمي إن شئت ولكن بعد روية وتفكير وأنا أرجو لك التوفيق وأقبلك قبلة محبة وإخلاص.

أسماء

الفيوم مايو 1913

طه حسين

سان جيرون في 10 يوليه سنة 1916

الرسالة العاشرة: من الشيخ زهران فتح الباب إلى الشيخ علام الجيزاوي

صديقي الفاضل:

السلام عليك ورحمة الله أما بعد: فقد وصل إلي كتابك الكريم ويسؤني أني لم ادرس في الأزهر الشريف ما درست في مدرسة القضاء من الأدب والإنشاء لأعبر لك عما يكنه قلبي من الشكر لك على تهنئتك ومن السرور بعزمك على الزواج وتوفيقك إلى ما تريد.

على أني إن أخطأت حسن اللفظ وجودة العبارة وتنميقها فأنا واثق بأنك تعلم حبي لك وميلي إليك وما يمكن أن يشعر به قلبي من الغبطة لسعادتك فليس يسعني الآن إلا أن أجيبك على ما سألتني عنه بما أعتقد أنه الحق. تريد أن تؤثر في نفس صهرك وتحمله على أن يقف ثروته ويقسمها قسمة متساوية بين أولاده وألا يتركها للميراث بحيث تقسم كما أراد الشرع للذكر مثل حظ الأنثيين. وأنا أعلم أن الوقف مشروع وأنه باب من أبواب الدين ولكني أرى أن تخطئ إن فعلت ذلك فإن الوقف وإن كان مشروعًا يجب أن يقدم عليه الواقف طائعًا مختارًا غير متأثر بمؤثر ما، ولست أخفي عليك أني لا أجد فرقًا كبيرًا بين ما تريد أن تتقدم عليه وبين ما ذمه الفقهاء المصلحون من الحيل. وأنت قد قرأت معي كتاب أبن القيم ورسائل أبن تيمية وقد سمعنا معًا دروس الأستاذ الشيخ محمد عبده فأنت تعلم ما اتفق عليه هؤلاء المصلحون من ذم الحيلة في الشرع واعتبارها مخالفة للدين ومناقضة لما أراد الله. هذا رأيي أقوله لك بصراحة وإخلاص لأني أحب لك ما أحب لنفسي وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معناه أحب لأخيك المؤمن ما تحبه لنفسك. أما أن زوجتك متعلمة تعلمًا حديثًا فتلك مزية أهنئك بها على شرط أن لا يكون تعلمها الحديث سبيلًا لخروجها عليك واعتقادها في نفسها المساواة لك. فإنك تعلم أن المرأة المتعلمة في هذه الأيام لا تريد أن يكون بينها وبين الرجل فرق وقد قال الله تعالى: "والرجال قوامون على النساء" وقال: "وللرجال عليهن درجة".

ولست أنكر أن المرأة من حقها أن تتعلم و كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عائشة رحمة الله عليها: خذوا نصف دينكم من هذه الحميراء. وإنما أريد أن تتعلم تعليمًا دينيًا لتكون زوجًا صالحة وأمًا قادرة على أن تربي أولادها تربية دينية طيبة فأما هذا التعليم الحديث فإنه يبعد ما بين المرأة وبين الدين لاسيما تعلم اللغات الأجنبية فلو أنها تعلمت اللغة العربية لحسن الأمر ولكنها تتعلم اللغة لتقرأ ما كتبه الأوروبيون من الطعن في الديانات ولاسيما في الإسلام ومن حيث إننا قد درسنا في الأزهر ووقفنا أنفسنا على خدمة الدين والدفاع عنه فأرى من الواجب علينا ألا نتزوج إلا امرأة صالحة ليست خطرة على الدين.

ولعمري أن المرأة الجاهلة لأسلم عاقبة عن المرأة المتعلمة تعلمًا حديثًا فإنها مطيعة سامعة تقبل منك كلما تقول ولا تلبث أن تصير دينة مؤمنة إذا علمتها وهذبت نفسها.

أقول ذلك كله وأنا لا أدري من أمر زوجتك شيئًا فلعل تربيتها المنزلية قد كانت صالحة تعصمها من الزيغ ولعلها متدينة لا يؤثر فيها ما تقرأ من كتب الفرنج لذلك لا أنصح لك بالعدول عن هذا الزواج ولا بالأقدام عليه وإنما أنصح لك بأن تتعرف أمر زوجتك بواسطة والدها ومن عسى أن يكونوا قد عرفوها. يسرني أن امتحانك قريب لأني واثق بأن النجاح سيكون نصيبك وأن الله سيوفقك إلى ما تحب وأنا أرجو أن يوفق الله خطاك ويهديك إلى سوء السبيل.

زهران فتح الباب

مايو سنة 1913 

الرسالة الحادية عشر: من إحسان إلى أبيها

أشكر لك أيها الوالد العزيز كتابك الرقيق فإنه يدل على ما لم أشك فيه من حبك لي وعطفك علي ومعاذ الله أن أتهمك بضيق الفكر أو خطل الرأي أو أظن بك الميل إلى قهري وإرغامي على ما لا أريد. لقد فهمت كتابي كما كنت أريد ان تفهمه وأجبتني إلى ماكنت أريد أن تأذن لي به وقد وصلت إليَّ أول رسالة من رسائل الشيخ علام ولست استطيع أن أبدي لك رأيي فيه الآن فإن رسالة واحدة قصيرة لا تسمح لي بالحكم عليه ولقد كتبت إليك هذا الكتاب لأشكرك على كتابك الكريم ولأنبئك بأني لن أستطيع أن أعود إلى البيت يومي الخميس والجمعة لأني قد كلفت المراقبة في المدرسة لغياب من كانت تقوم بذلك ولست أدري متى تنتهي إجازتها ولكني أسف الأسف كله لحرماني هذا الحظ من السعادة التي كنت أظفر بها حين أعيش بقربك و بقرب والدتي العزيزة يومين في الأسبوع وأنا أهدي إليكما تحية الأبنة الطائعة الشاكرة.

إحسان

القاهرة مايو سنة 1913

طه حسين 

سان جسرون في 10 يوليه سنة 1916

الرسالة الثانية عشرة: من إحسان إلى الشيخ علام الجيزاوي

سيدي الأستاذ

لك الشكر الجميل على رسالتك الرقيقة وما ضمنتها من إطرائي والثناء عليَّ. وأنا أسف الأسف كله لأني لم أُمنح من البلاغة هذا الحظ الذي يمكنني من الثناء قبل الابتلاء على أني حين تمنيت على أبي أن يأذن باتصال الرسائل بيني وبينك لم أرد إلا أن نتعرف وأنا أرجو أن تحمد عليَّ هذه المعرفة ويومئذ أثني عليك بما أنت أهله عن بصيرة وصدق ورأي لا عن وحي الوهم وعبث الخيال.

تسألني عن مشروعية الزواج وأحسبك تريد أن تسأل عن الحكمة من شرعه للناس فأنا اعترف بأني لم أفهم لأول وهلة كلمة المشروعية فإنها كما قيل لي كلمة مقصورة على اصطلاح الفقهاء وأنت تعلم إني لم أدرس من الفقه شيئَا.

مع أن من العسير على فتاة غرة لم تفارق الكتاب ولم تدرس الحياة أن تتحدث في أمر الزواج وأن تتحدث فيه إلى شاب وإلى شاب قد زعموه لها خاطبًا فإني متحدثة إليك برأيي فيه لا أخفي عليك منه قليلًا ولا كثيرًا.

لا أدري متى شُرع الزواج ولا أعرف له شارعًا وما أرى إلا أنه قانون من قوانين الفطرة وظاهرة من ظواهر الاجتماع فإني لا أعرف أمة قديمة ولا حديثة بادية ولا حاضرة إلا ولها من الزواج شكل يلائم بيئتها ويأتلف مع ما يختلف عليها من المؤثرات.

أمة تعدد الزوجات وأمة تعدد الأزواج وثالثة لا تعدد أولئك ولا هؤلاء. شعب يبيح الطلاق وشعب يحظره وثالث يجعله بيد المرأة ورابع يجعله بيد الرجل وخامس يجعله بيد القضاء. أولا يدل هذا على ما أزعم من أن الزواج كغيره من الظواهر الاجتماعية ليس إلا قانونًا من قوانين الفطرة ينشأ مع الجماعة ويتبع ما تمر به في أطوار حياتها من الرقي والانحطاط.

أعلم أن القانون والدين يتناولان الزواج بضروب من الإصلاح تلغي منه وتضيف إليه. ولكني أرى وأحسب أني مصيبة أن الدين والقانون كالأدب والشعر ليس إلا صورة تمثل ما تحرص عليه الأمة من حياتها الماضية وما تأمله وتسمو إليه في حياتها المقبلة. أفترى هذا الرأي أم أنت له نابذ وعنه عادل؟

مثل هذه النظريات عسير الحل أنه يحتاج إلى علم صادق لا يشوبه الشك بحياة الجماعات منذ نشأت وقبل أن يعرفها التاريخ. والأستاذ يعلم أنَّا لم نصل من المعرفة إلى هذا الحد.

ولذلك قلما أتفق الباحثون على حل نظرية من هذه النظريات إنما هى ظنون يظنونها وفروض يتخيلونها وسواء أكان الزواج نعمة من نعم السماء أو منحة من منح الفلسفة أو قانونًا من قوانين الفطرة فإن هناك أمرًا أجدر بالعناية وأخلق بأن ندرسه ونتبادل الرأي فيه. ذلك هو تصور كل منا للزواج وحكمه عليه ورجاؤه فيه فلا شك في أن سعادة الزوجين تقوم على رأي كليهما في الزواج. فإن رأى الأستاذ أن تكون هذه المسألة موضوع رسالتنا المقبلة فعل وله التحية والشكر.

القاهرة مايو سنة 1913

إحسان

تارب 20 يوليه سنة 1916

طه حسين

الرسالة الثالثة عشرة: من إحسان إلى أسماء

أف. ما أشد حاجتي إلى ما أمتلأ به قلبك يا أسماء من حنان وعطف وما امتزت به من لطف الدعابة وعذوبة الحديث. فلو رأيتني وقد ألقيت القلم ونهضت إلى النافذة أتنسم الهواء وأجيل في الحديقة عينًا حائرة لا تبصر شيئًا وقد طالما كان يأسرها جمال الربيع إذًا لضممتني إليك ولعرفت كيف تسلين عني الهم وتردين لي ما فقدت من لذات الحياة.

أتشعرين يا أسماء حين يتضاءل ضوء النهار وتتواتر ظلمة الليل وحين يداعب خدك الأسيل مرّ النسيم هادئًا فاترًا قد أثقله ما حمل من عبير الأزهار فهو يبدده ما استطاع لا يمر بمكان إلا ترك منه شيئًا. بأن قلبك يمتلأ لوعة وأسى وأنك في حاجة إلى البكاء وأن نفسك تذهل عنك كأنها تفارقك لتتبع هذا الضوء الذاهب في فضاء غير محدود.

أتجلسين إلى المائدة ضيقة النفس كاسفة البال مقطبة الجبين ومن حولك أترابك مسفرات مستبشرات يتنقلن من فكاهة إلى فكاهة ومن حديث إلى حديث وتشهد ابتساماتهن البريئة ثغورهن المضيئة بأنهن مازلن من غضاضة الشباب وسذاجة الصبا بحيث لا يعرفن من الحياة إلا حسن الذكرى وجمال الرجاء.

أتقفين الليل ساهرة هامدة يتقسمك الخوف والأمل وتتنازعك الريبة والثقة وتتمثل لك الحياة مرة جميلة خلابة وأخرى قبيحة بشعة وأنت مضطربة النفس لا يستقر لك قرار تسمعين من حين إلى حين دقات قلبك المحزون تقوى مرة وتضعف أخرى حتى إذا تنفس الصبح تولاك نوع من الفتور هو باسم الخمود المؤلم أجدر منه باسم النوم المريح.

لا. أنت لا تشعرين بشيء من ذلك لأنهم لم يقذفوا بعد في قلبك كلمة الزواج ولم يملأوا نفسك رعبًا وأملًا. ويحي للفتاة المصرية تنفق حياتها جاهلة غافلة حتى إذا أظلها الشباب أوحى إليها أبواها هذه الكلمة الساحرة مع كل ما تدل عليه وتفيض به من رجاء ويأس ومن أمل وقنوط.

أكتب إليك هذا كله لأني فرغت من إجابة الشيخ علام على رسالته وأنا مرسلة إليك كتابي لتقرأيه وتحكمي عليه. دعيني الآن أجبك على رسالتك الطويلة فأنا أشكرك وأرجو ألا تكون هذه الرسالة آخر ما تكتبين إلي في هذا الموضوع. يدهشك أن أفكر في أمر الزواج وفي العدول عن حياة المدرسة إلى حياة البيت مع إنك تعرفين ذوقي وتعلمين أني ميالة كل الميل إلى حياة الأسرة وقد طالما تحدثنا في هذا الموضوع فكنت تتمنين حياة علم وتأليف وتهزأين مني حين أتمنى حياة عمل وتربية. تخافين عليَّ ولك الحق أن أكون عرضة لعبث الزوج وهواه فإن القانون يبيح له الطلاق ويحظره عليَّ وهو يقدم على الزواج بعد روية واختيار وأنا أقدم عليه عن جهل وغفلة. ولعمري ما أرى أني مهما تخيرت زوجي ورضيته ودرست أخلاقه قد ضمنت لنفسي حياة آمنة هادئة لا تهددها سيطرة الزوج وإنما ذلك حظ كل امرأة مصرية وإن شئت فذلك حظ كل امرأة مسلمة ولكني لا أزعم لنفسي القدرة على تغيير القانون ولا أطمع في تغييره ولا أريد أن أذهب مذهب أصحاب الخيال فأضحي أملي في الحياة منزلية هادئة بعض الهدوء لأنفق أيامي في جهاد وكفاح رجاء إصلاح القانون ورفع شأن المرأة لا أفعل ذلك إلا لأني لا أقدر عليه وإنما أقدر على شيء واحد وهو أن أذعن لقوانين الاجتماع المصري كما هى باذلة ما أملك من الجهد لإصلاح حالي الخاصة وتدبير حياتي بحيث لا تناقض القانون ولا يكون بينه وبينها اختلاف تخافين الطلاق فإذا سعيت في أن أملك زوجي بالحب أفلا يكون هذا الحب ضمينًا بأن حياتي ستكون من الهدوء والأمن بحيث أحب وتحبين. آه الآن أسمعك تقولين وأني لك بالحب وأنت لا تعرفين زوجك ولم تدرسي من أخلاقه شيئًا. إنك لمخدوعة إن زعمت أنك ستملكين زوجك بالحب بعد أن يتم عقد الزواج فقد يكون ذلك ممكنَا ولكن من الممكن أيضَا أن يقع الخلاف موقع الوفاق وألا يكون بينك وبين زوجك إلا سوء الظن والبغض المتصل، ومهما يكن من شيء فأنت مقدمة على خطر يجب أن تتدبري فيه قبل الإقدام عليه ذلك حق ولكني لا أريد أن أتزوج إلا بعد أن أحب وأشعر بأن زوجي يدخر لي من الحب مثل ما أدخر له. ستقولين ليس ذلك بميسور مادمت لاتعرفين خطبك ولا تجلسين إليه ولا يتصل بينك وبينه الحديث، ذلك حق ولكني سأبذل جهدي في أن أعرف هذا الشاب وأن أتحدث إليه وأن أعاشره ما استطعت وأدرس أخلاقه وألهمه أخلاقي ما وجدت ذلك سبيلًا، فإن لم أفلح فسواء على ألا يتم هذا الزواج وأنت تعلمين أني لم أخلق لأطيع الطاعة مطلقة وأذعن لأمر أبي وأمي من غير روية ولا اختيار. سأحرم ثروتي وأنت تعلمين أن ليس للثروة عندي قيمة وأن عملي في المدرسة يسمح لي بأن أحيا حرة غير مستعبدة. قد ذكرنا الثروة فإني أريد أن أعرض عليك رأيًا يجول بنفسي منذ أيام: أخشى أن تكون ثروتي هى التي دلت خطبي عليَّ ورغبته في هذا الزواج فما ترين في أن أجعل من شروط هذا الزواج أن أبرأ إلى أبي من ثروته وألا أهدي إلى زوجي إلا شخصي و ما يملك من حب و مودة ومن بر وحنان.

أحسب أن الشيخ علامًا إذا عرضت عليه ذلك لن يتردد بين اثنتين إما أن يتزوجني فقيرة مثله وإما أن يعدل عني يبحث عن زوج تحمل إليه من الثروة ما يسد طمعه ويرضى شرهه فإن تكن الأولى فهى خطوة إلى الوفاق وآية على أن الرجل غير طامع في ثروة ولا شره إلى مال وإن تكن الثانية فهى راحة من عناء غير مفيد. أنا مثلك في أن تربية الشيخ وتربيتي مختلفتان كل الاختلاف ولكني كما تقولين لا أريد أن أرفض قبل أن أتثبت لأكون قد أديت الواجب أمام نفسي وأمام أبوي من جهة ولأن اتصال الرسائل بيني وبين هذا الشيخ تمكنني من أن أدرس طائفة من الأخلاق ربما لم أجد إلى درسها سبيلًا من جهة أخرى على أني لا أخاف تربيته الدينية فإن هذا النوع من الشيوخ المحدثين الذين نشأوا في الأزهر ومروا بمدرسة القضاء أو دار العلوم ليسوا بحيث تظنين من الدين والحرص على القديم فهم لا يؤمنون بالله ولا بالشيطان كما يقول الفرنسيون وإنما يتخذون من الدين والقديم مسحة يتوسلون بها إلى مناصبهم فإن شئت الاستدلال على ذلك فادرسي أخلاق أساتذتنا الشيوخ الذين كنا نرى ظاهرهم يدل على الورع والصلاح فإذا أردنا أن نبتلي سرائرهم ونمتحن سيرتهم لم نتردد في الحكم بأنهم يعيشون عيشة غيرهم من شبان هذا العصر والذين استطاعوا أن يضعوا العمامة ويخلعوا الجبة والقفطان قد سلكوا سبيل غيرهم من شبان المدارس المدنية جهرًا لا يخفون سيرتهم ولا يلقون بينهم وبين عامة الناس من ثيابهم وشهودهم للصلوات وتظاهرهم بالصوم حجابًا. أحسب أن رسالتي إلى الشيخ علام ستصيب منه موضعًا حساسًا لأنه حين سألني عن (مشروعية الزواج) لم يكن ينتظر إلا أن أجيبه بما قاله الفقهاء في كتبهم، ومع ذلك فأنا منتظرة إجابته ومرسلة إليك برسالته وأنا أرجو أن يصلني منك كتاب فيه من الصراحة وحرية الرأي مثل ما كان في رسالتك الماضية وأنا أهدي إليك تحية الأخت المخلصة وأقبلك قبلة ملؤها الود والوفاء.

إحسان

القاهرة مايو سنة 1913

طه حسين

تارب 20 يوليو سنة 1916

الرسالة الرابعة عشرة: من أبي إحسان إلى أبنته

إذن فلا مرد لقضائك يا إحسان وقد صحت عزيمتك على أن تهجري أبويك إلى أجل غير مسمى لأنك مضطرة إلى ذلك أو لأنك قد اضطررت نفسك إلى ذلك حين طلبت أن تنوبي عن تلك المراقبة المتغيبة.

اعترفي بأنك قد طلبت ذلك ورغبت فيه فرارًا من البيت و حذرًا من لقاء أبويك فإنك تخافين منذ عرض عليك أمر الزواج أن يكثر الحديث من حولك في البيت وأن لا يترك لك أبواك من الوقت ما يسمح لك بالروية والإناة فتكلفت البقاء في المدرسة لتفكري على مهل ولتدرسي هذا الأمر من غير تعجل ولا تأثر بقرب أبويك. 

أخطأت يا إحسان فإنا لا نريد أن نكلفك ما لا تريدين ولا أن نقهرك على ما لا تحبين إنما رأينا هذا الزواج خيرًا لك فعرضناه عليك وتركنا لك الحرية المطلقة في الرفض والقبول. لست أشك في أنك حين فعلت ذلك وأزمعت مقاطعة البيت وهجران الأسرة لم تفكري فيما عسى أن يترك عزمك في قلب أبويك من أثر أليم ولو قد فعلت ذلك لخترت أن لا تهجري أبويك وألا تحرميهما لذة رؤيتك يومين في الأسبوع مع أنك تعلمين أنهما ينتظران هذين اليومين أشد ما يكونان إليهما شوقًا وبهما كلفًا وتعلمين أن الأيام لم تترك لهما من سعادة العيش وصفو الحياة إلا شخصك وأن انقطاعك عن زيارتهما إنما هو قضاء على ما بقى لهما من السعادة أن يذهب ويفنى. أنت أرق قلبًا وأكرم نفسًا وأطهر عاطفة من أن تقضي على أبويك هذا القضاء الأليم. أتريدين أن أظن بك ظني بأبناء العصر من الإثرة وحب النفس وأن أحدهم لا يفكر إلا في أن يجلب لنفسه ما استطاع من نفع مضحيًا في سبيل ذلك بأسرته وقرابته وما عسى ذلك أن يدخر له من حب ومودة ومن حنان وإخلاص. لا. لا استطيع أن أظن بك هذا الظن فقد عرفتك وبلوت أخلاقك فإذا أنت إلى الإيثار أقرب منك إلى الإثرة وإذا قلبك لا يستطيع أن يطمئن إلى خيانة العهد وكفر النعمة و جحود الجميل.

لا تكرهي نفسك على مالم تألف فإن التكلف من أقبح الرذائل ولا تغيري ما عهد فيك أبواك من بريهما وعطف عليهما. لعلك إنما هجرت البيت فرارًا من زيارة أسرة الشيخ علام فإن كان ذلك ما دبرته وفكرت فيه فما أنصفت ولا عدلت فليس من اليسير أن تأتي أم الشيخ علام إلى بيتنا بعد أن تركت ريفها وأقبلت إلى القاهرة مملوءة النفس أملًا ورجاء في أنها سترى زوجة ابنها وستلقى عندنا ساعة من الفرح والسرور أقول ليس من اليسير أن تأتي هذه السيدة إلى بيتنا ثم تعود محزونة مكلومة الفؤاد لأنها لم ترك ولأنها ربما شعرت بأنك تهربين من لقائها على أنها لم تشعر بشيء من ذلك ولله الحمد فقد تمكنت والدتك من إرضائها وإقناعها بأنك مادمت في المدرسة ستظلين مكرهة على الخضوع لقوانينها و أنها إن أرادت أن تراك من غير شك فخير لها أن تنتظر أيام المسامحة إذن فطيبي نفسًا وقري عينًا وعودي إلى زيارة أبويك فلن تري أم الشيخ علام وقد ضمن أبواك ألا يحدثاك في أمر الزواج حتى يتضح رأيك وتصبح عزيمتك على إقدام أو إحجام وتقبلي تحية أبويك المشوقين

رحمي

القاهرة مايو سنة 1913

الرسالة الخامسة عشرة : من الشيخ علام إلى الشيخ زهران فتح الياب

صديقي المفضال

 السلام عليكم ورحمة الله أما بعد

فقد وصل إلي كتابك الكريم فسرت به نفسي وامتلأ به قلبي غبطة وفرحًا وإن كان ما يشتمل عليه من مخالفتك لي في الرأي وعدولك عما ذهبت إليه فقد أدخل عليَّ بعض الحزن فقد كنت أود أن نتفق كل الاتفاق على ما أنا عازم عليه بحيث إذا أقدمت لم أشعر بأني وحيد فإن يد الله مع الجماعة كما تعلم على أني لم أيأس من عودتك إلى رأيي واقتناعك بصحة ما أنا ذاهب إليه تقول إنك لم تدرس الإنشاء في الأزهر وأنك تأسف لأنك لا تستطيع أن تشرح أراءك بعبارة بليغة أما أنا فلا أسف لذلك وإنما أسف لشيء أخر وهو أنك لم تدرس في الأزهر علم الأخلاق على النمط الحديث إنما قرأت ما كتب الغزالي وسمعت على الأستاذ الشيخ محمد عبده ما كتب ابن مسكويه في كتاب تهذيب الأخلاق فكانت لك من هذا كله سيرة تلائم ما درست من كتب الدين وما عرفت من آثار السلف الصالح ولو أنك درست الأخلاق على النظام الحديث لرأيت غير ما رأيت ولقرأت من الأراء الحديثة ما يغير سيرتك ويجعلها أقرب إلى الحياة العصرية وأجلب للمنفعة من سيرتك التي أنت عليها الآن ذلك لأن عمل الرجل في هذه الحياة لا ينبغي أن يصدر إلا عن حبه لمنفعته الخاصة قبل كل شيء فإنا إنما خلقنا لنعيش سعداء وأول واجب علينا أن ننفق ما استطعنا من الجهد والقوة في تحصيل السعادة واتقاء الشقاء. ستقول إن هذا ضرب من الإثرة وحب النفس وأن الإسلام يخالف ذلك ولا يرضى به وأن الرجل المسلم حقًا ينبغي أن ينفق حياته في نفع المسلمين أولًا والنوع الإنساني كله ثانيًا ولكني أعتقد أن مذهبي لا يخالف الإسلام فإن الرجل إذا طلب منفعته الخاصة بوجه مشروع لم يرد على أن خدم الأمة كلها إذ إن منفعة الأمة ليست إلا مجموع المنافع الشخصية ولا شك في أن كل فرد إذا قصر في منفعته الشخصية يسيء إلى المنفعة العامة بناءً على هذا المذهب نستطيع أن نتفق فيما حدثتك فيه من مشروع الزواج تقول إن هذا الوقف الذي أنص إليه ليس إلا فنًا من فنون الحيلة وأن علماء المسلمين قد ذموا الحيلة في الدين وأنذروا من ذهب إليها بالعذاب الشديد وأنا أعتقد أن هذه الحيلة التي احتالها أقرب إلى النفع منها إلى الضرر وأن الحيلة المذمومة في كتب العلماء إنما هى التي تجر شرًا أو تستتبع ضررًا وكيف تنكر ذلك وأنت لا تستطيع أن تنكر أني وزوجي أحق بالحياة ولذاتها من هذين الشابين اللذين لا يصلحان لشيئ. أفيأمر الله عز وجل أن نترك إليهما ثروة واسعة يبددانها في إرضاء أهوائهما وشهواتهما من غير مراقبة ولا حساب.

لو أن هذه الثروة الواسعة آلت إلى زوجتي لما أنفقناها إلا فيما أحل الله من المللذات وفي تربية أبنائنا على نسق يوافق منفعة الأمة أو ليس هذا خيرًا من أن نترك هذه الثروة إلى هذين الشابين يفسدان بها في الأرض ويصدان بها عن سبيل الله. إنهما لن ينفقاها إلا في الفسق والفجور وأنت تعلم أن الفاسق لا يسيء إلى نفسه فقط وإنما يسيء إليها وإلى الناس جميعًا لعل بعد ذلك توافقني على أن هذه الحيلة مشروعة لا تخالف الدين ولا تغضب الله. أما المسألة الثانية وهي وجوب الزواج بامرأة دينة صالحة واجتناب فتيات هذا العصر فلا أوافقك عليها لأني أؤثر فتيات هذا العصر على النساء المتدينات بل لأني أعتقد أني أقدر بمعونة الله على أن أرد زوجتي الملحدة إلى الدين وأرى أن في ذلك من الجهاد وحسن البلاء شيئًا غير قليل أو ليس إقناع الملحد بالعودة إلى الدين أشق وأصعب من تعليم الجاهل دينه أو ليس الرجل إذا استطاع أن يرد ملحدًا إلى دينه قد استوجب أجر المجاهد الذي يحمل الكافر على الإسلام. إذن فلا تصدني عن هذه السبيل فإنها سبيل جهاد وفلاح وأنا أنتظر ردك وأهدي إليك تحية طيبة وسلامًا زكيًا.

علام الجيزاوي

القاهرة مايو 1913

طه حسين

باريس