رؤى

نجلاء عبد الجواد

هجوم طه حسين على درية شفيق

2024.06.22

السقوط في فخ الشوفينية الوطنية 

 

ليس انقلابًا على قناعات الماضي ولكنه داء الشوفينية الوطنية الذي يسلب المرء عقله ويجعله مجذوبًا يردد شعارات جوفاء دون إعمال العقل، حتى وإن كان هذا العقل عقل العميد طه حسين. فخ الشوفينية الوطنية أسقط العميد وأصبح لسان حاله كباقي أصحاب الحناجر خالية الوعي يردد: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" معركة الضباط الأحرار في سيطرتهم على مصر بدعوى الخلاص من الملك وأعوانه الموالين للغرب، ظهر أول سقوط للعميد في مقالاته الثلاث التي أفردها على جريدة الجمهورية -بوق الضباط الأحرار- في مارس 1954، عندما قادت المناضلة المصرية درية شفيق اعتصامًا مع 9 نساء أخريات وقررن البقاء في نقابة الصحفيين معلنات أنهن أضربن عن الطعام حتى يتم تعديل قانون الانتخاب، وتمنح المرأة حقها في الترشح للبرلمان وأن يكون للمرأة تمثيل في الجمعية التأسيسية لوضع دستور مصر ما بعد حركة الضباط الأحرار، دستور 1956.

تلقف الإعلام خبر الاعتصام والإضراب بالشائعات والأخبار الزائفة التي نالت من سمعة وسلوك المعتصمات، فظهرت الصحف بعناوين، مثل: إنهن يقضين الليل مع الصحفيين، وأخرى تتهم أزواجهن بأنهم ليسوا رجالًا وأنهم عار على الإسلام وأن عليهم ضرب زوجاتهن وإعادتهن إلى ديارهن، وأخرى تؤكد أن المضربات يتناولن الطعام سرًّا وأن درية شفيق تأكل المارون جلاسيه. في خضم هذا الزيف والافتراء الممنهج خرج العميد بمقالة بعنوان: "العابثات" جاء فيها: "فقد سمع هؤلاء السيدات والأوانس مشكورات مأجورات لهذه الشكوى وكنت أدعو منذ يومين اثنين في الجمهورية إلى ترقية التمثيل فقد استجاب هؤلاء السيدات والأوانس مشكورات مأجورات أيضًا لهذا الدعاء، وويل للأدباء والكتاب إذا لم يسمعوا لهن ولم يفهموا عنهن، ولم يصوروا هذه الدراما في ألوان من القصص البارعة تعرض على النظارة ما في هذه المأساة المضحكة الممضة من فكاهة حلوة ودعابة مرة وسخف يستخف أعظم الناس حلمًا وأشدهم حرصًا على الوقار، وحزن يفطر القلوب ويفري الأكباد، وما لهم لا يفعلون وقد استخفت هذه المأساة المضحكة أو هذه الملهاة المحزنة نفرًا من أعلام الفقه والسياسة وأصحاب الجد والوقار فينا، فسعى رئيس لجنة الدستور ورئيس من رؤساء مجلس الشيوخ، وسعى بعض الساسة والكتاب، إلى الصائمات ينصحون لهن بالإفطار والإعراض عن صومهن هذا الذي لا يبيحه دين ولا يراد به وجه الله، والله لا يحب صومًا يتصل في الليل والنهار، وأنه لا يحب صومًا يقطعه شراب الليمون وإنه لا يحب صومًا يُراد به وجه غير وجهه.. وإن كان وجه الغانيات الحسان."

صادم ما قرأت لطه حسين. فهذه هي المرة الأولى التي أقرأ فيها مقالة العابثات كاملة. كيف لنصير المرأة الذي أفرد لها الروايات والمقالات والكتب والأحاديث واللقاءات أن يسخر من إضرابها وأن يراه مأساة مضحكة وملهاة محزنة، وأن يرى الإضراب عن الطعام مخالفًا للدين. يستطرد العميد: "ثم هو صوم لا يحبه الطب، لأنه يجلب العلل إلى الأجسام الصحاح، ولا يحبه طب الجمال خاصة، لأنه يذوي زهرات من حقها أن تكون نضِرة دائمًا، ويغيض ماء الشباب الذي لا ينبغي أن يغيض مهما تتقدم السن ومهما تكثر الأحداث وتعظم الخطوب ويفسد الدهر، وهو بعد هذا كله صوم لا يحبه الذوق الذي هو طبيعة السيدات والأوانس، فليس من الذوق في شيء أن يعبثن والشعب جاد، ولا أن يلعبن والشعب ماضٍ في تدبير أمره مشغول بحاضره الخطير ومستقبله الغامض، يريد أن يجد فرجًا من حرج ومخرجًا من ضيق وأمنًا من خوف ودعة من شدة وشقاء، فكيف وهو عبث بما لا ينبغي أن يناله العبث، عبث بالحسن الذي ينبغي أن يصان، وعبث بالصحة التي تحفظ، وعبث بالحقوق التي ينبغي أن ترعى، فبين هؤلاء السيدات أمهات لهن أبناء وبنات وعليهن لهؤلاء البنات والأبناء حقوق لا ينبغي أن تضاع، ولهن أزواج وعليهن لهؤلاء الأزواج حقوق لا ينبغي أن تضاع، وبينهن أوانس لهن آباء وأمهات، وعليهن حقوق لهؤلاء الآباء والأمهات لا ينبغي أن تضاع، ولهؤلاء السيدات والأوانس وطن، وعليهن لهذا الوطن حقوق لا ينبغي أن تكون موضوعًا للعبث، وأول هذه الحقوق أن تؤدي الأمهات ما يجب عليهن للأبناء والبنات والأزواج، وأن يرعى الإنسان ما يجب عليهن للآباء والأمهات والإخوان والأخوات."

أصبحت المرأة تعبث بعد أن كانت في مقالة أخرى مسؤولة جديرة بأن تكون رائدة، أصبحت عليها حقوق تجاه الأبناء والزوج بعد أن كانت في كتاب لها حقوق ودور مهم في المجتمع. ليس لشيء غير أن الشعب جاد ماضٍ في تدبير أمره مشغول بحاضره الخطير ومستقبله الغامض، وهل لهذا الشعب حاضر ومستقبل دون حاضر ومستقبل نسائه.

يكرر طه حسين نفسه في المقالة أكثر من مرة ما يجعل القارئ يرى أنه كتبه بواعز غير مفهوم للعميد نفسه واعز الشوفينية الوطنية الذي سيطر عليه وعلى وعيه فيقول: "ولم أكن أعلم أن نقابة الصحفيين قد اتخذت من دارها ملعبًا للتمثيل، فقد عرفت ذلك الآن وسأشير على بعض طلاب الجامعة باستئذان النقابة في أن يمثلوا في ملعبها بعض مسرحياتهم التي تضيق بها الملاعب الرسمية، وإن كانت مسرحيات هؤلاء الطلاب أقل فكاهة ومضاضة وإمتاعًا للنظارة من مسرحية العابثات هذه التي تمثل الآن. ولهؤلاء السيدات والأوانس أولياؤهم الأزواج والآباء. فكيف شارك هؤلاء الأولياء في هذا العبث وما لهم لم يردوا أزواجهم وبناتهم عنه، وما لهم لا يردونهم عن المضي فيه. أيكونون قد وجدوا شيئًا من الفكاهة في أن يعبثوا هم أيضًا، فحياة الناس لا تخلو من مرارة في هذه الأيام، أم تراهم أرادوا أن يتخففوا من أزواجهم وبناتهم أيامًا أو يومًا أو بعض يوم بعد أن ألححن عليهم فيما تعودن الإلحاح عليهم فيه من مطالب السيدات والأوانس التي لا تنقضي."

كان لمقالة العابثات ردة فعل صادمة ظهرت في مقالتي رئيس تحرير ونائبه لجريدة الجمهورية، مقالة حسين فهمي المعنون بـ"لا يا أستاذي الدكتور" المنشور في 17 مارس 1954، ومقالة عميد إمام المعنون: "العابثون لا العابثات" المنشور في 17 مارس 1954، المقالتان اتهمتا طه حسين بأنه جائر على الحرية، مخاصم للمرأة في حقوقها السياسية، محافظ يرى أن تظل المرأة مضيَّعة الحقوق مسخرة لخدمة الرجل، عابث بحقوق المرأة السياسية بل عابث بالحقوق السياسية كلها وبالحرية أيضًا، طامع في الضعفاء قوي عليهم.

أثارت هاتان المقالتان طه حسين أكثر، فتمادى في صب غضبه على درية شفيق وزميلاتها المضربات عن الطعام المعتصمات بنقابة الصحفيين. فكتب مقالة في جريدة الجهورية بتاريخ 18 مارس 1954 بعنوان: "عبث العابثات" نال غضبه كلًّا من الكاتبين حسين فهمي وعميد إمام وقد اتهمهما بالخاطفين، فيقول: "عفا الله عن هذين الأديبين الخاطفين، وغفر لهما خطفهما أولًا وجورهما عن القصد ثانيًا وظلمهما للناس من غير روية ولا أناة بعد ذلك. فأيسر القراءة الهادئة المطمئنة المستأنية غير الخاطفة لحديثي عن العابثات، تظهر القارئ على أني لم أعرض لحقوق المرأة السياسية من قريب أو بعيد ولم أتحدث إلا عن عبثهن الصائم، أو صومهن العابث، في نقابة الصحفيين، وفي هذه الأيام الشداد التي يعرف الكاتبان الخاطفان الكريمان، مع ذلك شدتها أكثر مما نعرف، لأن عملهما في الجمهورية يظهرهما على ما لا نظهر نحن عليه من حقائق السياسة المصرية في هذه الأيام.

فهما يعرفان من أمر القناة وما يجري حولها، من أمر المعتقلين وما يلقون، وما تلقي أسرهم، ومن أمر المفاوضات والمحادثات بيننا وبين الإنجليز، ومن أمر الأزمات التي تعترض حياتنا الداخلية والخارجية ومن أمر الموظفين الذين دُفعوا إلى التبطل وأُكرهوا على الحياة الفارغة، ومن أمر حياتنا المعقدة التي اضطربت فيها الصلات بين الناس، ومن أمر الإشاعات التي تنغص على الناس أيامهم وتؤرق لياليهم، ومن أمر الخصومات حول الجمعية التأسيسية التي ما زالت حقائقها مغيبة عنا إلى الآن.. هما يعرفان من أمر هذا كله أكثر مما أعرف أنا وأكثر مما يعرف أمثالي، من الذين قصروا حياتهم على القراءة والدرس، وعاشوا بين كتبهم يجتنبون الفتن و يأبون أن يخوضوا فيها".

يضطر طه حسين إلى أن يذكر دوره في مساندة المرأة. وكيف لا وقد وجد نفسه متهمًا بأنه سالب لحريتها جائر على حقوقها فيقول: "والذين يعرفون مناقشة لجنة الحقوق والحريات حول هذه المسألة يعلمون حق العلم أني لم أكن محافظًا ولا مقصرًا في ذات المرأة ولا ممسكًا لها في الرِّق. والذين يدرسون في غير خطف يعلمون علمًا لا يعترضه الشك، أني شاركت في إباحة التعليم العالي للفتاة المصرية، وعسى أن يكون أستاذنا الجليل أحمد لطفي السيد قد اعتمد عليَّ، خاصة حين أتاح للفتيات الاختلاف في الجامعات، وحين أتاح لهن بعد ذلك ألا يكتفين بطلب العلم في الجامعات وأن يكنَّ فيها أساتذة يعلمن الفتيات والفتيان جميعًا، وعسى أن يكون اللاتي تخرجن عليَّ في الجامعة أنبه الجامعيات ذكرًا وأبعدهن صوتًا وأعمقهن أثرًا في حياتنا الاجتماعية الحديثة، وأنا الذي قدم الفتيات اللاتي تخرجن في الجامعة للمرة الأولى لجمهور الناس في حفل أقيم لذلك في الاتحاد النسائي منذ وقت طويل، وأنا الذي أتاح لزعيمة الصائمات في نقابة الصحفيين إتمام دراستها في السربون، التي لجأت، فوجدت عندي ملجأ أي ملجأ، وجدت عندي من نسي خصومته لوزير التقاليد رحمه الله، فسعى إليه وما زال به حتى أمر ببقاء الآنسة درية شفيق في فرنسا حتى تتم درسها. وكانت وزارة المعارف قد أزمعت ردها إلى مصر.

فهما جديران إذن أن يقدروا هذه الشدة التي تلقاها مصر في هذه الأيام وأن يعرفا أن صوم الصائمات على هذا النحو في نقابة الصحفيين لا في دورهن، لون من العبث السخيف لا يلائم المصلحة الوطنية من قريب ولا من بعيد، ولا يؤدي إلى الظفر بالحقوق السياسية للمرأة، وإنما يؤدي إلى هذا السخف الذي نحن فيه وهذا الكلام الفارغ الذي نصبح به ونمسي في كل يوم".

تتملك الشوفينية الوطنية من طه حسين وتجعله يرى الأمور بمنظور ضيق لا يفيد الوطن بأكمله متجنيًا على حقوق المرأة متهمها بالسخف وأن كلامها كلام فارغ بعد أن وقف بجانبها وعدل في قوانين البعثات الدراسية وسمح لها باختيار ما تدرس، أصبحت الأن ناقصة لا يعتمد عليها في إدارة أمورها فما بالك بإدارة وطن.

يختتم طه حسين هذه المعركة بمقالة ثالثة نشرت في 23 مارس 1954 في جريدة الجمهورية بعنوان: "بعد الإفطار" أخذ يعدد فيه نضاله التاريخي في حقوق المرأة وسعيه الدؤوب لتعليمها وتوليها المناصب القيادية، كم لقي في ذلك من اضطهاد من قبل شيوخ الدين وتهديد من قبل الشرطة. كما أنه خالف أستاذه التاريخي أبا العلاء المعري في رؤيته للمرأة، كل هذا في محاولة منه لتبرئة ساحته التي كانت قد تلطخت بفعل غير واعٍ منه في مسيرته المناصرة للمرأة، فيقول: "وقد أنفقت حياتي معلمًا للفتيان والفتيات جميعًا، ومعلمًا لهم في الجامعة ليخرجوا منها مهيئين للنهوض بالواجبات العامة والخاصة جميعًا، وما كنت لأعين على تعليم الفتاة في الجامعة وأنا أعتقد فيما بيني وبين نفسي، أنها ستخرج من الجامعة لتعود قعيدة بيتها راضية عن ذلك، أو كارهة له. لو قد اعتقدت ذلك لما أعنت على تعليمها ولما يسرت تمكينها من تعليم الفتيان والفتيات في الجامعة نفسها، ولما لقيت من غضب شيوخ الدين ومشاركة السلطان لهم في هذا الغضب أحيانًا، ولما تلقيت في تلك الأيام من نذر سبقتني إلى العلم بها وزارة الداخلية، فأصبحت ذات يوم وإذا الشرطة أمام بابي تسعى إلى أن تحميني من عدوان، وإن كان. ولو قد اعتقدت ذلك. لقنعت بما درست في أول الشباب من شعر أبي العلاء".

"لن يقر أحد بحرية المرأة إلا المرأة نفسها. قررت أن أقاتل حتى أخر نقطة دم لكسر القيود المفروضة على النساء في بلادي". بهذه الكلمات استطاعت درية شفيق ورفيقاتها فتحية الفلكي وبهيجة البكري ومنيرة حسني وأماني فريد وهيام عبدالعزيز وراجية حمزة، أن يجعلوا محمد نجيب رئيس مصر في ذلك الوقت يوافق على التمثيل النسائي في لجنة الدستور وإدراج الحقوق النسوية في دستور 1956.

أغضب هذا العميد طه حسين وزاد من سخطه المدفوع بإحساس الهزيمة أمام قوة المعتصمات فكتب: "إن الصائمات قد خرجن من صومهن كما دخلن فيه. دون أن يوجب شيء أو أحد عليهن صومًا أو إفطارًا، صمن لغير مقتضى وأفطرن لغير مقتضى أيضًا. فرسالة رئيس الجمهورية إليهن واضحة لا غموض فيها ولا إبهام، وهى إن دلت على شيء فإنما تدل على أن الرئيس لم يعدهن بشيء، ولم يلتزم لهن بشيء، ولم يلزم أحدًا لهن بشيء، وإنما كانت تعلة ردتهن إلى الجد بعد العبث، وإلى الصواب بعد الخطأ، وإلى الرشد بعد أن تجاوزن الرشد وانحرفن عنه أشد الانحراف".

الإضراب عن الطعام فعل تاريخي معروف ومشهود له في النضال الإنساني والأدبيات عند كل الشعوب المتحضرة ومعترف به في مواثيق حقوق الإنسان، فكيف لطه حسين الذي جاب العالم وحاضر في جامعات عريقة وجالس فلاسفة ومفكرين مشهود لهم بانحيازهم إلى الإنسانية أن ينكر الإضراب ويشكك في فعاليته ويرى في المجتمع المصري بيئة لا تصلح له وعادات وموروثات دينية تحرمه وتمقته وتراه جريمة يستوجب عليها العقاب، فيكتب: "والذي أعلمه أننا لا نعيش في الهند ولا في السند ولا في بلاد تركب الأفيال وإنما نعيش في مصر الهادئة المعتدلة، التي لا تعرف عنفًا ولا جموحًا، ولا تحب غلوًّا ولا إسرافًا، والتي يدين أهلها المسلمون والمسيحيون بتحريم الانتحار والنهي عن الإقدام عليه والإلقاء بالأيدي إلى التهلكة، فقتل النفس أو محاولته كبيرة من الكبائر في الدينين جميعًا، ففي هذا الصوم مجافاة لما يحب أهل هذا البلد من طاعة الله ومن طاعة القوانين أيضًا. وليس صحيحًا ما ذهب إليه بعض الخاطفين من أن الصائمات أحرار يصنعن بأنفسهن ما يشأن، فحرية الإنسان مهما تتسع لا تبيح له الحق في أن يقتل نفسه كما أنها لا تبيح له الحق في أن يقتل غيره.

وليس صحيحًا أن الإنسان ملك خالص لنفسه يصنع بها ما يشاء، وإنما الصحيح أن الإنسان فرد في جماعة ولهذه الجماعة عليه حقوق كما أن له عليها حقوقًا، فهو إن قتل نفسه مضيع لحق الجماعة ومن الواجب على الجماعة أن تمنعه من ذلك وأن تصده عنه صدًّا، كما أنه إن قتله غيره كان من الواجب على الجماعة أن تأخذ قاتله أو محاولة قتله بأعنف العقاب وأقساه، إلا أن تكون مصر قد رفضت الديانات والقوانين.

وليس صحيحًا ما يزعمه بعض الخاطفين أيضًا من أن الإنسان حر في ذات نفسه لا رقيب عليه ولا حسيب، وإنما الصحيح أن الإنسان إن كان مؤمنًا بدين من الأديان فالله رقيب عليه في ذات نفسه والله قد أمره ألا يقتل نفسه ولا يلقي بيده إلى التهلكة وإن كان ملحدًا فضميره الاجتماعي رقيب عليه في ذات نفسه كذلك وسلطان الجماعة رقيب عليه أيضًا. وكلًّا مما يمنعه من أن يقتل نفسه أو يعرضها للقتل، ولكننا نعيش في عصر من عصور الخطف يكتب فيه الناس ويعملون ويقولون في غير أناة ولا روية ولا حساب".

من المفارقات القدرية أن طه حسين، حسب مذكرات زوجته وكتابات ابنه مؤنس، كثيرًا ما كانت تنتابه أوقات يأس كادت تصل به في كثير من الأحيان إلى محاولات انتحار. فيقول مؤنس طه حسين في حوار صحفي نشر في كتاب بعنوان: "طه حسين في مرآة العصر": "أبى كان مغرقًا في التشاؤم. وإدراك ذلك سهل يسير، وحسبنا أن نذكر في هذا المقام عاهة العمى. لقد وجد العون على تخطي هذه المحنة. ومع ذلك كانت تنتابه أطوار من القنوط وصفها في كتاب "الأيام". لقد حدثته نفسه بالانتحار أحيانًا، وكانت تنتابه ثورات يأس لا قبل لأحد بأن يكون له فيها عون، لا ولا حتى زوجته كانت قادرة على ذلك مع ما أوتيت من رفق وحنان". هذه الحالة تحكي عنها زوجته سوزان في كتابها "معك": "كان أحيانًا يحبس نفسه وراء صمت شرس مخيف، كما لو أنه سقط في أعماق حفرة لا يستطيع أي شيء على الإطلاق أن ينتزعه منها".

ليس فقط إضراب درية شفيق ورفيقاتها هو من أسقط طه حسين في فخ الشوفينية الوطنية. لكن هناك السقطات الكثيرة كمحاكمة زينت الوكيل زوجة مصطفى النحاس باشا التي لم يتطرق إليها بكلمة ووجد في تعامل جمال عبدالناصر معها حق وتصحيح لأوضاع كان يجب تصحيحها من قبل، أيضًا موقفه من تجريد مصطفى النحاس من ألقابه وأملاكه ووضعه تحت الإقامة الجبرية. لم يتحدث عنها العميد بل طلب من النحاس أن يخضع لجمال عبدالناصر وأن يؤيده في قراراته فهذا دليل الولاء والوطنية وغير ذلك يضر بالثورة ومستقبل مصر.

فخ الشوفينية الوطنية مستمر وما زال يسقط فيه كثيرون، لكن أكثر من يسقط دائمًا هم من يمتلكون العقل ويؤثرون في وعي الجموع، لا خلاص من هذا الفخ ما دام هناك شيء أهم من الإنسان حتى وإن كان هذا الشيء هو الوطن.