دراسات
أحمد زكريا الشلقهل أضاعت ثورة يوليو السودان؟ وما دور صلاح سالم؟
2025.05.04
مصدر الصورة : آخرون
هل أضاعت ثورة يوليو السودان؟ وما دور صلاح سالم؟
ربما لا يعرف كثير من أبناء الأجيال الجديدة عن صلاح سالم سوى اسم الطريق الدائري الذي التف حول شرقي القاهرة في أوائل الستينيات من القرن الماضي، والذي حمل اسمه تخليدًا لذكراه. فلا يتذكرون أنه أحد قادة الضباط الأحرار الذين خططوا أو نفذوا "الحركة المباركة" عشية 23 يوليو 1952، وأنه أحد أعضاء اللجنة التنفيذية التسعة، أو العشرة، التي قادت الحركة وتحولت إلى "مجلس قيادة الثورة"، فور نجاح الحركة وتحولها إلى ثورة وطنية غيَّرت وجه الوطن. لذلك تصبح مذكراته شهادة مهمة على ما شارك فيه من أحداث ووقائع، وما شهده خلال السنوات الأولى والخطيرة من تاريخ الثورة، وفى أدق مراحلها (1948-1955) خاصة وأنه أصبح المسؤول عن قضية السودان.
وقد لا نغالي إن قلنا إن كثيرًا من أبناء هذه الأجيال الشابة لا يعرفون أن مصر والسودان كانتا دولة واحدة لنحو قرن وثُلث من الزمان (1822-1955) أي منذ أن أتمَّ محمد علي ضم بلاد السودان وممالكه إلى باشوية مصر، والتي صارت خديوية، فسلطنة واحدة، ثم مملكة واحدة في العهد الملكي، عُرِفَت أدبيًّا وشعبيًّا بدولة وادي النيل، والتي خضعت للاحتلال البريطاني الذي استمر حتى انفصال السودان واستقلاله في نهاية عام 1955 وبداية عام 1956. ومن ثم فإن تاريخ سودان وادي النيل الحديث يُعد جزءًا عزيزًا من تاريخ دولة وادي النيل الواحدة.
لذلك أود أن أبدأ هذه الدراسة بإلقاء نظرة موجزة على سيرة حياة الصاغ صلاح سالم (1920-1962) تكشف عن نشأته وتكوينه، وتلقي الضوء على مجمل نشاطه ودوره الوطني والسياسي للتعريف به، ثم تلقي مزيدًا من الضوء على دوره بشأن قضية السودان التي أُنيطت به في سنوات الثورة الأولى، والتي ركزت مذكراته المنشورة فيها بشكل أساسي، فقدمت شهادته عن دوره خلالها، ذلك الدور الملتبس والذي عرضه للنقد في إدارته للمسألة، وأخيرًا نحاول إبراز أهمية وقيمة هذه المذكرات، باعتبارها مصدرًا من مصادر دراسة الحركة الوطنية المصرية خلال العقد الأول من تاريخ ثورة يوليو 1952.
نشأة صلاح سالم ودوره في ثورة يوليو
صاحب المذكرات هو صلاح الدين مصطفى سالم، وُلِدَ في السودان في 25 سبتمبر عام 1920 وتُوفي في 18 فبراير عام 1962 عن نحو 41 عامًا، وهو ينتمي إلى أبناء الطبقة الوسطى التي باتت قادرة على تعليم أبنائها وإدخالهم الكلية الحربية بعد معاهدة 1936. وقد وُلِدَ في "سنكات" بشرق السودان لأبوين مصريين، حيث كان والده يعمل موظفًا لدى حكومة السودان، (كما عمل والد زوجته ضابطًا في الجيش المصري بالسودان فيما بعد). وقد عاش صلاح في سنكات حتى السادسة من عمره حيث تلقى مبادئ تعليمه الأوَّلي في كتاتيبها، فدرس اللغة العربية ومبادئ الحساب والدين الإسلامي وحفظ قدرًا من القرآن الكريم، ولعله ظل يحمل بين جوانحه ذكريات طفولته في السودان. انتقل الصبي بعد ذلك إلى القاهرة حيث تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة الحلمية الجديدة، ثم حصل على البكالوريا من مدرسة الإبراهيمية الثانوية بالقاهرة، والتحق بكلية الهندسة جامعة فؤاد الأول لمدة عامين، قبل أن يلتحق بالكلية الحربية الملكية، ليتخرج فيها ضابطًا عام 1938 وهو في الثامنة عشرة من عمره. وقد بدأ الشاب حياته العملية بالخدمة ضابطًا بالقوات المصرية في مرسى مطروح زمن الحرب العالمية الثانية، وهناك عاصر العمليات العسكرية الشهيرة للحرب في جبهة العلمين. وفي أعقاب الحرب استكمل دراسته العسكرية بكلية أركان الحرب ليتخرج فيها عام 1948 ويشارك في حرب فلسطين في نفس العام.
أما قصة انضمام صلاح سالم إلى تنظيم الضباط الأحرار في 14 نوفمبر عام 1948، فقد ارتبطت بمشاركته في حرب فلسطين، حين كان ضابط أركان حرب في قيادة القوات المصرية في فلسطين، حيث روى أن القوات المصرية في رفح كانت تعاني محنة قاسية وقد تراجعت خطوطها -بعد أن كانت على مقربة ثلاثين كيلومترًا من تل أبيب- حتى قطاع غزة تاركة وراءها لواءً كاملًا محاصرًا في "الفالوجة وعراق المنشية". وذكر صلاح أن القيادة العامة كلفته هو وزكريا محيي الدين، ومعهما بعض المعاونين، بأن يحملا رسالة وبعض الذخائر الخفيفة والأدوات الطبية إلى القوات المحاصرة، وأنهم نجحوا بالفعل في النفاذ داخل خطوط العدو الذي طاردهم بنيرانه فتفرقوا، ولكن صلاح نجح في التقدم حتى عراق المنشية قرب الفالوجة، حتى دخل في مرمى نيران القوات المصرية المحاصرة والتى كادت تفتك به دون أن تسمع صياحه بكلمة السر، لولا أن أنقذه بعض الجنود السودانيين الذين تعرَّفوا عليه وأوصلوه إلى جمال عبدالناصر الذي تلقى الرسالة. وفي عراق المنشية انضم إلى الضباط الأحرار، ولمع اسمه وحصل على ترقية استثنائية إلى رتبة الصاغ (الرائد) تقديرًا لشجاعته. وبدأ منذ ذلك التاريخ يمارس دوره داخل إطار تنظيم الضباط الأحرار للتخطيط للقيام بحركة الجيش وتنفيذها، بعد أن صار عضوًا في اللجنة التنفيذية للتنظيم.
وفي حوالي عام 1950 عبَّر صلاح عن سخطه على النظام الحاكم في مصر وضيقه بالأوضاع السائدة داخل الجيش، فانتقد إدارة الكلية الحربية في مقالة نُشِرتَ في مجلة "المصور" لفتت نظر الفريق حيدر باشا قائد عام القوات المسلحة، الذي كان وثيق الصلة بالملك، فاتصل بصلاح وحاول كسبه إلى صفه، الأمر الذي وجد تشجيعًا من جانب زملائه من الضباط الأحرار للحصول على أكبر قدر من المعلومات لصالح حركتهم، مقابل أن يقدم معلومات مضللة إلى حيدر باشا عن الضباط الأحرار الذين كان القصر يعلم بنشاطهم ولا يوليهم اهتمامًا كافيًا. غير أن الضباط الأحرار ما لبثوا أن أدركوا ضعف مركز حيدر باشا لدى القصر، وأن السلطة التنفيذية في إدارة أمور الجيش تقع في أيدى عناصر معيَّنة بالقصر، ما شجَّعهم على المضي قُدُمًا في خطتهم للإطاحة بالنظام.
ومن موقعه في غزة لعب صلاح سالم دورًا مهمًّا لصالح تنظيم الضباط الأحرار وخطة القيام بحركتهم، وفي ليلة 23 يوليو كان في العريش، مع أخيه جمال سالم، وقد سيطرا على القوات الموجودة هناك واستطاعا تأمين دورها في الثورة، وعندما نجح الضباط في الاستيلاء على السلطة، عاد صلاح من العريش إلى القاهرة يوم 26 يوليو 1952 بإحدى طائرات سلاح الجو، قبيل خروج الملك فاروق بساعات، وظل خلال الأيام الأولى للثورة مسؤولًا عن قوات الجيش في فلسطين وسيناء وشرق القنال، وعندما استقرت الأوضاع للنظام الجديد، استُدعِيَ صلاح إلى مبنى القيادة في كوبري القبة، حيث كانت توَّزع المهام، وقد استقر الرأي على توزيع الإشراف على الجيش بين صلاح سالم وعبدالحكيم عامر وكمال الدين حسين، وكانت ضمن مسؤوليات صلاح الإشراف على وحدة الجيش في السودان. ومنذئذ بدأت صلته بالسودان وارتبط تاريخه ودوره بالمسألة السودانية بشكل كبير على نحو ما شرح في مذكراته.
ومن المهم الإشارة إلى أنه ارتبط بقضية السودان بمحض الصدفة، ولم يكن له سابق خبرة بها منذ تركها في طفولته، بل لقد اعترف بأنه لم يقرأ عن السودان في حياته إلا القليل، وإن مجلس قيادة الثورة، قبل 23 يوليو، لم يكلِّفه بدراسة ملف السودان، لأن الضباط الأحرار في اجتماعاتهم التي سبقت الثورة لم يتعرضوا لقضية السودان، حيث كان همَّهم الأكبر هو إزالة صخرة الاحتلال. والمعروف أن صلاح سالم ظلت علاقته قوية بالمسألة السودانية وكان شديد الإيمان بقضية وحدة وادى النيل منذ تولى منصب وزير الإرشاد القومي ووزير دولة لشؤون السودان في يونيو 1953 وحتى استقال في أواخر أغسطس 1955.
أما بخصوص المناصب الوزارية التي شغلها صلاح سالم خلال السنوات الأولى لثورة يوليو 1952 فلم يشغل سوى وزارة الإرشاد القومي ووزارة الدولة لشؤون السودان معًا، وقد جمع بين المنصبين دائمًا بين عامي 1953 و1955. فشغلهما في وزارة محمد نجيب الثانية التي شُكِّلَت فور إعلان الجمهورية في 18 يونيو 1953 واستمرت حتى بداية أزمة فبراير ومارس 1954، وبالتحديد حتى 10 فبراير، والتي كان فيها جمال عبدالناصر نائبًا لرئيس الوزراء ووزيرًا للداخلية، ولم يدخلها من العسكريين، بالإضافة إلى نجيب وعبدالناصر، سوى صلاح سالم وعبداللطيف البغدادي، ثم شغل صلاح نفس منصبيه في وزارة جمال عبدالناصر الأولى التي لم تستكمل أسبوعين في السلطة (25 فبراير-8 مارس 1954) ليظهر اسمه في وزارة محمد نجيب الثالثة (8 مارس-17 إبريل 1954). وعندما حُسِمَت أزمة فبراير ومارس لصالح عبدالناصر وفريقه (وكان صلاح سالم ضمن هذا الفريق) وعُهِدَ إليه بتأليف وزارته الثانية التي استمرت من 17 إبريل 1954 حتى 29 يونيو 1956، استمر فيها صلاح يشغل نفس المنصبين حتى قدَّم استقالته في 28 يونيو 1955، أي قبل عام من انتهاء فترة حكمها. وقد تولى "فتحي رضوان" وزارة الإرشاد القومي في التعديل الوزاري الذي حدث في الثاني من نوفمبر 1955. وبطبيعة الحال، انتهى أمر وزارة الدولة لشؤون السودان، الذي كان في سبيله إلى الاستقلال والانفصال عن مصر نهائيًّا.[1]
ولمَّا كان الطرفان المصري والإنجليزي قد توصلا إلى تفاهم بشأن مشكلة السودان ووقَّعا اتفاقًا مشتركًا في 12 فبراير 1953، فقد مهَّد السبيل لتحقيق الجلاء البريطاني عن مصر، وتفرَّغت قيادة الثورة لجولة مفاوضات جديدة وحاسمة مع الإنجليز لتحقيق هذا الهدف، وشكَّلت وفدًا لبدء مفاوضات الجلاء مع الجانب البريطاني، تلك التي استمرت كما هو معروف خلال عامي 1953 و1954، وشارك صلاح سالم ضمن أعضاء الوفد الذي تفاوض مع الإنجليز، فشارك في جولتها الأولى تحت رئاسة رئيس الوزراء محمد نجيب منذ 27 إبريل 1953 والتي استمرت جلساتها حتى 8 مايو من نفس العام، ثم أُرجِئَت بسبب موقف المفاوضين البريطانيين وتعنتهم، حيث بدأت حركة المقاومة المسلحة المصرية والأعمال الفدائية في منطقة القناة تنشط ضد المعسكرات البريطانية. ثم قُدِّرَ للمفاوضات أن تُستأنَف من جديد، بعد انتهاء الصراع على السلطة خلال شهري فبراير ومارس 1954، فعادت جلساتها بمشاركة صلاح سالم أيضًا، حتى تم التوصل إلى صياغة المبادئ الرئيسة لاتفاقية الجلاء خلال الفترة من 17 حتى 27 يوليو 1954، والتي وقَّعها جمال عبدالناصر بصفته رئيسًا للوزراء، ووقَّع معه كل من عبدالحكيم عامر، وعبداللطيف البغدادي، وصلاح سالم، وكذلك وزير الخارجية الدكتور محمود فوزي في 18 أكتوبر 1954.
وعندما وقعت أزمة فبراير ومارس 1954 التي كانت في جوهرها صراعًا على السلطة بين جمال عبدالناصر وفريق من مؤيديه، وبين محمد نجيب ومن يؤيدونه، كان صلاح سالم منحازًا إلى فريق عبدالناصر ضد نجيب، وقد طلب إليه في بداية الأزمة تهدئة الجماهير من خلال الإذاعة، باعتباره وزيرًا للإرشاد، فأذاع بيانًا غريبًا من محطة الإذاعة مساء 26 فبراير 1954 نشرته الصحف في اليوم التالي، حطَّم فيه صورة محمد نجيب الأسطورية لتحل محلها صورة "الجنود المجهولين أعضاء مجلس قيادة الثورة وعلى رأسهم البكباشى جمال عبدالناصر"، وأخذ صلاح يستعرض شريط الأحداث المؤلمة التي سبقت استقالة نجيب الذي وضع مجلس الثورة في حرج بالغ، فإما الاستجابة لمطالبه واختفاء المجلس، وإما الإصرار على هذه الاستقالة، حسبما ورد بفصول وحيد رأفت عن ثورة يوليو.[2]
وكان من الواضح أن عبدالناصر يسيطر على وزارة الإرشاد سيطرة تامة خلال الأزمة، الأمر الذي جعل صلاح سالم مجرد واجهة في بعض الأحيان، وقد أبدى حينذاك رغبته في الاستقالة من الوزارة بحجة أنه أصبح موضع كراهية ونقد من الشعب بسبب موقفه من محمد نجيب، وإذاعته البيان الخاص باستبعاده، ثم البيان الخاص بإعادته، الأمر الذي سبب له حرجًا كوزير، ولكن عبداللطيف البغدادي أورد في مذكراته أن صلاح كان عنيفًا في موقفه من نجيب، حيث دارت مناقشة بينهما قال لنجيب خلالها: "من الذي أتى بك قائدًا لهذه الثورة؟ ومن الذي كان يعرفك من قبل؟[3]
صلاح سالم والعلاقات مع العالم العربي
من الأدوار المهمة التي قام بها صلاح سالم بتكليف من مجلس قيادة الثورة ما يتصل بعلاقات مصر العربية، وكان صلاح من المؤمنين بمبدأ الاتحاد بين كل الشعوب العربية من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، ويرى أن اليوم الذي يتمكن فيه قادة هذه الشعوب من تحقيق هذه الغاية النبيلة، سيتحقق للعرب قوة ضخمة عالمية.. وبعد توقيع اتفاقية الجلاء عن مصر بالأحرف الأولى صيف عام 1954، أُوفد إلى العراق للتعرف على حقيقة اقترابه من الأحلاف العسكرية، وإعادة الحرارة إلى العلاقات المصرية العراقية، ومحاولة كسب ثقة رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد.. وهناك عبَّر صلاح عن أمل مصر في ألا يرتبط العراق بأي حلف أجنبي حتى تجلو القوات البريطانية عن مصر تمامًا وعن بقية البلاد العربية، فأبدى نوري السعيد تخوفه من وصول المد الشيوعي إلى العراق. ثم أدلى صلاح سالم بحديث في مؤتمر صحفي ذكر فيه أن مصر لا تمانع من حدوث وحدة بين بعض الدول العربية، وفسَّر العراقيون ذلك بأن مصر توافق على مشروع "الهلال الخصيب" الذي أراد به نوري السعيد ضم سوريا إلى العراق، وقد غضب عبدالناصر من تصريحات صلاح سالم، كما استنكر ما جاء في البيان المشترك لمحادثاته مع نوري السعيد بشأن استشارة مصر والعراق لكل من بريطانيا والولايات المتحدة في مسألة دعم وتقوية الجامعة العربية، بل إن عبدالناصر أبلغ السفير العراقي بالقاهرة عدم موافقته على ما ورد بالبيان لأنه يتنافى مع استقلال الدولتين.
ومع ذلك ظل عبدالناصر يستعين بصلاح سالم في مهام عربية أخرى، فقد روى أحمد حمروش في كتابه "قصة ثورة يوليو"[4] أن صلاح سافر إلى دمشق في مارس 1955، وأنه نجح في توقيع ميثاق للتعاون العسكري والسياسي والاقتصادي مع سوريا، ثم انتقل مع وزير خارجية سوريا خالد العظم إلى كل من الأردن والمملكة العربية السعودية لعرض نتائج هذه الاتفاق المشترك، الذي كان ينص على عدم انضمام الدولتين إلى الحلف التركى/العراقى "حلف بغداد"، كما نص على إقامة منظمة دفاع وتعاون اقتصادي عربي مشترك، وكذلك إنشاء قيادة عسكرية دائمة تشرف على تدريب القوات العسكرية التي تضعها كل دولة تحت تصرف تلك القيادة، وقد وافق الملك سعود على ما جاء في الميثاق المصرى/السوري، كما انضمت اليمن إلى الدول الثلاث التي وقَّعت عليه. وقد شارك صلاح سالم مع جمال عبدالناصر والشيخ أحمد حسن الباقوري، في المؤتمر الآسيوي الإفريقى الذي انعقد في باندونج في إندونيسيا في إبريل 1955 على نحو ما هو معروف.
وعندما بدأ العدوان الثلاثي على مصر في 29 أكتوبر 1956 وتوالت الغارات الجوية البريطانية والفرنسية على المطارات المصرية وعلى القاهرة، وقررت القيادة المصرية سحب الجيش المصري من سيناء حتى لا يتعرض للحصار والإبادة، اجتمع قادة الثورة مع عبدالناصر في 2 نوفمبر 1956 ليناقشوا الموقف: هل يستمرون في المقاومة والحرب مهما كانت النتائج؟ أو يطلبون إيقاف القتال؟ أم يستمرون في المعركة إلى حين؟! وفي خضم روح القلق والعصبية برز رأيان: أولهما يستند إلى منطق الوطنية الشهيرة التي تقتضي المقاومة مهما كانت الظروف، وحتى آخر رجل، وثانيهما وقد تبنَّاه صلاح سالم وهو يستند إلى الواقعية ذلك أن مصر تواجه ثلاثة أعداء، اثنان منهم من القوى الكبرى، وهي قوى لا قِبَل لها بمقاومتها. واقترح صلاح -في أسى وحزن- أنه لا خيار أمام عبدالناصر سوى الاستسلام وبسرعة وقبل تدمير البلاد وتمزيق جيشها، وقال لعبدالناصر: "إنك قمت بخدمة عظيمة لهذا البلد وضحيت كثيرًا من أجله، والآن كتبت عليك المقادير أن تضيف إلى تضحياتك تضحية أخرى وهي أن تقبل تسليم نفسك.. إن "إيدن" أعلن أن الحرب تستهدفك أنت وليس الشعب المصري، فإذا عرفوا أنك على استعداد لتسليم نفسك، توقفت الحرب على الفور". وحثّ عبدالناصر على التوجه إلى السفير البريطاني في القاهرة وتسليم نفسه لحل الأمور. تلك هي رواية محمد حسنين هيكل.[5]
لكن عبداللطيف البغدادي أورد في مذكراته أن صلاح سالم اقترح على جمال عبدالناصر أن يعلن بيانًا على الشعب يخبره فيه بأنه رأى أن المصلحة تقتضي أن يعلن أنه سيطلب وقف القتال والاستسلام.. وزاد على ذلك بقوله: "ونقوم ونسلِّم أنفسنا للسفير البريطانى تريفليان"، فردَّ عليه البغدادي: "إنه أشرف له أن ينتحر قبل أن يقوم بمثل هذا العمل".. وقال جمال عبدالناصر: "إنه من المستحسن أن ننتحر جميعًا قبل أن نأتي بمثل هذا العمل".. وهنا قال صلاح إنه "يسحب اقتراحه". ويبدو من رواية البغدادي أن روح صلاح سالم المضطربة كادت تؤثر على عبدالحكيم عامر، وأن عبدالناصر حذَّر الأخير -تليفونيًّا- من ذلك، حتى طلب عبدالحكيم من صلاح سالم أن يذهب إلى العريش ليتولى الدفاع عنها، وقد استنتج البغدادي من ذلك أن عبدالناصر رغب بهذا إبعاد صلاح سالم عن عبدالحكيم عامر.[6] المهم أن صلاح سالم قام بدوره الوطني في حركة المقاومة خير قيام بعد أن بدأ عبدالناصر خطة المواجهة، وتولى القيادة العسكرية بنفسه، كما وُضِعَت الخطة لحرب شعبية ممتدة فيما لو تغلبت قوات الغزو على الجيش المصري، وكذلك إبعاد الطيران المصري عن الحرب، ووضع خطة لتعطيل قناة السويس لوضع العالم أمام واقع جديد، على نحو ما هو معروف من تطورات حرب السويس وفشل العدوان الثلاثي.
أدوار صلاح سالم الصحفية
وبعد قبول مجلس قيادة الثورة استقالة صلاح سالم في أواسط عام 1955 من عضويته، ومن منصبيه الوزاريين، وانتهاء دوره في المسألة السودانية باستقلال السودان في أول يناير 1956، بدأت المرحلة الأخيرة في حياة صلاح سالم، والتي عمل خلالها بالصحافة بين عامي 1956 و1959، حيث شغل في البداية رئاسة تحرير صحيفة "الشعب" منذ 4 يونيو عام 1956، ولم يمكث في هذا المنصب طويلًا، فأُقيل منه خلال فترة العدوان الثلاثي على مصر، حتى عُيِّن رئيسًا لمجلس إدارة مؤسسة دار التحرير للطبع والنشر في 8 إبريل 1959، والتي كانت تصدر صحف الجمهورية والشعب والمساء وبعض الصحف الأجنبية، ومجلتي التحرير والإذاعة، وقد قرر صلاح سالم دمج صحيفة الشعب مع صحيفة الجمهورية في صحيفة واحدة.
والمعروف أن صلاح سالم كانت له صلة سابقة بالصحافة والصحفيين بحكم منصبه السابق وزيرًا للإعلام (الإرشاد القومي). وقد ذكر البغدادي في مذكراته[7] أنهم في اجتماع لمجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء في أواسط إبريل 1954 قام صلاح سالم بعرض موضوع تطهير الصحافة وحل النقابة لأنه قد ثبت بالأدلة أن سبعة من أعضائها كانوا يتقاضون مبالغ من الحكومات المختلفة تحت بند المصروفات السرية، واقترح صلاح وضع قانون جديد لتنظيم الصحافة في مصر، وعمل نقابة من المحررين الصحفيين دون أصحاب الصحف. وقد قُدِّر لصلاح أن يتولى رئاسة نقابة الصحفيين عام 1960 بالفعل، بعد أن عمل على استصدار القانون الجديد الذي جعل تأليف مجلس النقابة بالانتخاب.
ومن المهم الإشارة إلا أن صلاح كان يتولى مهمة الرقابة العامة على الصحف، وأن كثيرًا من الصحفيين كانوا يشتكون من التضييق عليهم وعلى حرية النقد والنشر، وكانوا يطالبون، خاصة في روزاليوسف، برفع الرقابة وتحرير الصحافة، الأمر الذي يرتبط ارتباطًا قويًّا بحرية الوطن.[8]
ويبدو أن جمال عبدالناصر كان يتدخل كثيرًا في أمور ونشاط وزارة الإرشاد، خاصة ما يتصل بالرقابة على الصحف، وأن هذا الأمر قد أحنق صلاح سالم، الذي اشتكى في مايو عام 1955 من أن وزارة الإرشاد، التي هو مسؤول عنها، أصبح وزيرها الحقيقي جمال عبدالناصر وليس صلاح سالم، وذلك لأن مصلحة الاستعلامات التابعة لوزارته، والتى يرأسها عبدالقادر حاتم، أصبحت تأخذ أوامرها مباشرة من جمال عبدالناصر، وأن الرقابة على الصحف يقوم الرقيب فيها بالرجوع إلى جمال، وكذلك في شأن التعليقات الداخلية والخارجية التي تبثها الإذاعة، وأنه لم يتبقَّ لصلاح في الوزارة من أجهزة سوى السياحة. ويروي البغدادي أنه خلال لقاء جرى بينه وبين جمال سالم حضره صلاح سالم في 26 مايو 1955 قال لهما صلاح إنه يعتقد أن "جمال سيحاول التخلص منَّا فُرادى، لأنه من الخطورة عليه أن يتخلص منَّا دفعة واحدة، وأنه سيحاول الاحتفاظ مؤقتًا بصلاح حتى تنتهي مشكلة الاتحاد مع السودان، فإن نجحت ينشأ له مركز جديد ليشغله ويكون مقره السودان، وإن فشلت سهل عليه التخلص منه أمام الرأي العام بعد أن يُنسَب إليه هذا الفشل".[9]
المهم أن صلاح سالم الذي كان يعاني من متاعب مزمنة في الكُلى منذ فترة طويلة، بدأت تتدهور حالته الصحية منذ أواخر عام 1959، ثم ساءت بدرجة خطيرة في مارس عام 1960، الأمر الذي بدأ معه رحلة علاج طويلة في كل من السويد والولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا ثم الاتحاد السوڨييتى، إلى أن استقر بمستشفى الطيران بالعباسية حيث فاضت روحه ظهر 18 فبراير 1962 فشُيِّع جثمانه بجنازة عسكرية إلى مثواه الأخير.
وللحديث بقية..
1- عن مناصبه الوزارية راجع كتاب "الوزارات المصرية ج2، 1953-1961 إشراف يواقيم رزق ، مركز تاريخ مصر المعاصر، هيئة الكتاب 1989، ص 90-120.
2- وحيد رأفت: فصول من ثورة 23 يوليو، دار الشروق 1978، ص 159-60.
3- مذكرات عبداللطيف البغدادي، ج1، المكتب المصري الحديث 1977، ص 122، 163.
4- أحمد حمروش قصة ثورة يوليو ج 2، بيروت 1978، ص 48-49.
5- محمد حسنين هيكل: حرب الثلاثين عامًا، ملفات السويس، ج1، مركز الأهرام للترجمة والنشر 1986 ص 34.
6- مذكرات البغدادي، ج1، ص 243-245، 250.
7- راجع مذكرات البغدادى ج1، ص 187.
8- راجع مصطفى عبدالغنى: المثقفون وعبدالناصر، دار سعاد الصباح ومركز ابن خلدون، القاهرة 1993، ص 412-415.
9- مذكرات البغدادى، ج1، ص 229.
ترشيحاتنا
