بروفايلات
وسام سليمانصديقتي أروى صالح
2025.04.13
مصدر الصورة : ويكبيديا
عن أروى صالح في ذكرى مولدها 15 أبريل
نوفمبر 1995
شجعني الطقس الخريفي أن أعود إلى تمشيتي المفضلة في وسط البلد.
كنت قد استيقظت على خبر رحيل "ليلى مراد"، أعلنه أبي وهو يقرأ جرائد الصباح، ثم استعاد ذكرى لقائه بها وهو شاب عندما رآها وهي تشتري خيوط التريكو من أحد محلات جاردن سيتي، عرفها من صوتها وهي تودع البائع، فهتف بتلقائية "دي ليلى مراد؟" التفتت إليه ومنحته ابتسامة وهي تغادر المحل. كم مرة سمعنا منه هذه الحكاية بصوت حماس شبابه الجامح، ذلك الصباح كان صوته هادئًا ورزينًا كأنه يودع شبابه للأبد.
وكنت غارقة في شرودي عندما انتبهت إلى صوت أروى صالح، ثم لمحتها تقترب ومعها الشاعر والمترجم بشير السباعي، يضحكان:
دا انتِ ماشية سرحانة خالص.
ثم سألتني فجأة
مالك؟!
قررت أروى أن تتمشى معي في وسط البلد، بينما استأذن بشير ليلحق بموعده في أتيليه القاهرة.
كنت قد تعرفت بها منذ حوالي عامين، من خلال الصديق بشير السباعي، بدت لي وقتها كأنها عائدة من سفر طويل، لفتت نظري عيونها الذكية اللامعة، ترحابها الدافئ والمغلف بالحذر في الوقت نفسه، وكانت مبتهجة بزواجها القريب بالشاعر الموهوب مهاب نصر، وفي انتظار صدور كتاب تحكي فيه عن تجربتها في الحركة الطلابية وهي واحدة من أهم رموزها، أبديت لها حماسي لأهمية موضوع الكتاب خصوصًا لجلينا الذي لا يعرف إلَّا القليل عن الحركة الطلابية، ولكنها نبهتني بلطف أنه ليس كتاب تاريخ، واستوقفني عنوانه "المبتسرون".
التقينا بعدها في مطعم صغير في شارع سليمان باشا لا يكفي أكثر من تلاث مناضد، يملكه صديقان أحدهما إيطالي والآخر لبناني، وبسبب موقعه المميز في وسط البلد كانت مجموعات البنات الروسيات يلجأن إليه أثناء يوم عملهن الطويل في الشوارع لاستعمال الحمام، يدخلن وبأيديهن أكياس ممتلئة بالأحذية، فتساءلت:
هل الروسيون يأتون من بلدهم البعيد لشراء الأحذية المصرية؟!
لم يعلق بشير الذي بدا شاردًا مع مشهد البنات والأحذية، أمَّا أروى فاكتفت بابتسامة متعاطفة مع سذاجتي.
كم أضحكتنا أيام المدرسة صورة جورباتشوف في الجرائد يستعرض صلعته أمام الكاميرا، والوحمة الكبيرة التي ادعى أنها تمثل خريطة العالم، ونبوءة العرافة أنه ولد ليغيرها! ولم أكن أعلم وقتها كم تساقط العديد من الحالمين مع هذا المشهد.
دخلنا الجامعة مع اشتعال حرب الخليج ، ورغم المظاهرات التي تندلع بين الحين والآخر فإن الأجواء بشكل عام كان يسودها الركود واللاجدوى، أرى زميلاتي يذهبن مجموعات في انتخابات اتحاد الطلبة ليعطين أصواتهن للإخوان المسلمين: "عشان مسلمين"، أو "مانعرفش غيرهم"، هوجة الفنانات التائبات انعكست على الأمهات والخالات والعمات، نسمعهن يعلقن بتحفظ على صورهن الفوتوغرافية في فترة شبابهن بالفساتين والجونلات القصيرة: "ماكناش عارفين دينا كويس"، وكأن مجتمعًا كاملًا مسيرًا بعقدة ذنب تجعلهم يحكمون على أنفسهم والأجيال القادمة.
كانت أروى في تلك الفترة تتفرج على مصائر جيلها من رفقاء النضال، تحولات الكثيرين تصبح دافعًا إضافيًّا لتعيد قراءة تجربتها:
استبدلوا بالعمل الثوري شهوة جمع المال في زمن العودة للواقع، ومن كان الأكثر تطرفًا في مبدأ المساواة في الأجور يصبح هو نفسه الأكثر تشددًا في الجديد .. ترى ماذا تبقى من حلمنا القديم سوى وهم تبدد.
تعددت لقاءاتي القصيرة بأروى، ولكن في ذلك اليوم وربما بسبب حبنا المشترك لليلى مراد أصبحنا أنا وأروى صديقتين.
***
"الروائيون" هي أول رواية تدخلني إلى عالم مثقفي الستينيات، وهي آخر روايات غالب هلسا الكاتب الأردني الذي أحب مصر وعاش فيها معظم سنوات شبابه حتى غادرها مضطرًّا في منتصف السبعينيات، كلما مررت في شارع هدى شعراوي أتذكر بطلة الرواية حيث مكان عملها في وكالة أنباء الشرق الأوسط ، وأتذكر مواجهتها لحبيبها المناضل بأن "فشله في السياسة جعله فاشلًا في الحب"، ظلت أجواء الرواية ملتصقة بي حتى تمنيت لو أنساها هي ومصائر أبطالها القاسية.
تذكرت الرواية وأنا أتمشى مع أروى. اندهشت عندما عرفت أن كاتبها غالب هلسا، هو أول من تعرفت بهم، وأدخلها إلى عالم المثقفين، وكانت وقتها صبية في السادسة عشرة، متقدة بالذكاء، قلقة، متمردة وكاتبها المفضل هو دوستوفسكي.
دوستوفسكي قدم لي وأنا مراهقة أن عذابي مفهوم ومبرر، وأول صك انتماء لطفلة شيء ما في ذلك المحيط الهائل الذي يسمونه العالم يثير ذعرها.
أطلق عليها غالب هلسا "الطفلة المعجزة"، انتمت بكل كيانها إلى الشيوعية.
"كانت تضفي الانسجام على عالم لا تراه عادلًا ولامنطقيًّا".. بديلًا من العالم الواقعي الذي يسبب لها عذابًا غير مفهوم.
لم تقرأ أروى "الروائيون" ولم أفهم وقتها عندما قالت إنها تخشى حتى الاقتراب منها.
الحنين، والرثاء للذات هما ما كانت تحاول أروى الفرار منهما، فالحنين يغلف الماضي بأوهام مضللة، أما الرثاء للذات فهو يصنع منا ضحايا غارقين في العدمية.
عاشت أروى أحلام الستينيات:
حيث كان الحديث عن الوطن لا يثير الهزء بل كان حديثًا مفعمًا بالحرارة في كل بيت.
حدث زلزال 1967، فسقط الجميع من جنة الأحلام ليصعد جيل أعلن عن نفسه متمردًا على الأب السلطة والأوهام الكبيرة، وكانت أروى واحدة من هذا الجيل.
بسبب مجموعها الكبير في الثانوية فازت بمنحة للدراسة في الجامعة الأمريكية ولكنها هي سرعان ما نفرت من أجواء الاستلاب الطبقي بين الطلبة المتفوقين والطلبة الأغنياء، الحلم الطوباوي بالمساواة بين البشر، وإفساح الطريق أمام ما ينتجه الإنسان من جمال في سعيه للوصول إلى الكمال جزء أساسي من فطرتها، وجدت صدى أسئلتها في روايات دوستوفسكي وهي طفلة، وفي الشيوعية التي اعتبرتها من المسلمات، فسلمت نفسها للحلم والنضال.
الفترة من 1972 إلى 1977 هي فترة المجد للحركة الطلابية، استطاعت أن تضغط على السادات للتعجيل بقرار الحرب، وكادت تطيح بحكمه فقرر إعدام الحركة بخطة خبيثة ما زلنا ندفع ثمنها حتى الآن.
قرر محاربتهم بالجماعات المتأسلمة وفتح لها الباب واسعًا، ودعمها بالأموال والحماية الأمنية فكان هو أول ضحاياهم.
(أذكر أنه بعد ثورة 2011 والإعلان عن انتخابات رئاسية حاولنا أن نصدقها، كنت أتحدث مع بشير السباعي عن أسماء المرشحين، ما إن سمع اسم أحدهم -وهو عضو إخواني بارز تمرد على جماعة الإخون المسلمين- حتى انتفض صارخًا "ده كان بيضربنا بالكرباج في مظاهرات الجامعة!" ولكن صدمته الأكبر عندما عرف أن عددًا لا بأس به من المثقفين يدعمونه).
كشفت أروى عن هذه الانتهازية السياسية، التي كانت جزءًا من فشل الحركة من الداخل وهو ما أرادت أن تواجهه بشجاعة أثارت عداء الكثيرين من جيلها:
أقفلت الجروح دون تطهير فثمن المواجهة كان فوق الطاقة، فأبقت الوساخة على الجرح حيًّا لا يندمل ولا يموت رغم دفنه عميقًا حتى لا يراه أحد.
***
في زيارتي الأولى لها في شقتها لفت نظري صورة شاب وسيم بالأبيض والأسود في حجرة المعيشة، بدا لى قريب الشبه جدًّا بأروى حتى أنني سألتها بسذاجة:
ده أخوكي؟
فاجأها سؤالي، وأخذت تستفسر باهتمام عن سبب اعتقادي أنه أخوها، حتى بدأت أشعر بالإحراج، ابتسمت وهي توضح لي:
كان خطيبي.
إنه الفتى بهاء النقاش الذي رحل شابًّا فى حادث مأسوى وأهدته أروى كتابها.
لم تفهم أبدًا دوافعها عندما قررت الانفصال عنه رغم إدراكها لحبه وتعلقه بها. ترك رحيل بهاء إحساسًا عميقًا بالذنب ممتزجًا بالندم وتأنيبًا مبطنًا للذات:
لماذا كنت عاجزة عن الحب؟
كان بهاء مونتيرًا تخرج في المعهد العالي للسينما، يفضل العمل وسط الناس، "الناس العادية" -بحسب قاموس الثوريين- وتلوم نفسها أنها لم تقدر حكمته البسيطة إلَّا بعد رحيله:
البرجوازي الصغير اتهام يمكن أن يلحق بأي شخص لمجرد أنه يدخل السينما وخطر له أن يدرسها، أما المشاركة فهم قالوا رأيهم الحقيقي فيها: إنها سذاجة.
ربما لذلك شجعتني أروى على نقل أوراقي إلى معهد السينما، فالسينما تجبرك على الخروج من دائرة ذاتك المغلقة إلى الناس و"الناس العادية" هم أبطال الأفلام وليس عالم المثقفين.
تتوزع صورها وأوراقها بين حجرة المعيشة ومطبخها الواسع حيث جلستنا المفضلة، أسألها عن صورة تجمعها بالمخرج محمد خان والمخرجة عرب لطفي، في موقع تصوير أحد الأفلام، فتحكي لي عن تجربتها في العمل في السينما في أحد أفلام المخرج محمد خان. اعتبرتها محاولة للهروب واكتفت بعلاقتها الشغوفة بالأفلام.
نحضر معًا أفلام مهرجان القاهرة. يعرضونها لطلبة الأكاديمية في قاعة سيد درويش، طوال طريق العودة أسمع تحليلها الذكي للأفلام، الذي يتجاوز خبرتي المتواضعة وقتها.
أزورها في البيت لأرافقها للخروج للسينما، تفتح لى الباب مبتهجة وتأخذني إلى الداخل حيث دولاب ملابسها. تخرج منها إحدى جونلاتها المركونة منذ سنين، تضحك وهي تقول:
هلبسها، حتى لو قالوا متصابية، مش مهم.
كانت أروى وقتها في بداية الأربعينيات فقط، ورغم كل ما مرت به فإنها ظلت جميلة، لم تفقد عيونها لمعانها الذكي حتى في أقسى لحظات حزنها، فمن الصعب أن تخمن لها عمرًا محددًا، ولكن حساسيتها المفرطة ليس فقط لنظرات الناس في الشارع، بل وزملائها في العمل ورؤسائها -الذين تعرف تاريخهم جيدًا- وتعرف أن وجودها ليس مريحًا بالنسبة لهم، حتى فكرت أن تتعلم حرفة مثل الرسم على الزجاج، أو تبدأ أي مشروع صغير يجنبها التعامل المباشر مع الناس.
وبدأ القلق يضغط أكثر على الجرح الذي اعتقدت أنها شفيت من مرارته بالكتابة عنه.
علق البعض على الكتاب بأنه "جلد للذات" في حين اعتبرته هي نقلة وعي شخصية بالتاريخ ومحاولة للشفاء.
لم تكن تأمل أن يرحب جيلها بالكتاب، وقالت إنه بالأساس إلى الأجيال القادمة "إرث عليهم أن يجحدوه"، إلَّا أنها تمنت بداخلها أن يفتح الكتاب بابًا للنقاش، للجدل، المشاركة.
الجزء الأخير من الكتاب عبارة عن رسالتين طويلتين طبق الأصل، مرآة شفافة لروح أروى القلقة الذكية التي لا تكف عن الأسئلة، أضافتهما للكتاب عملًا بنصيحة أحد الأصدقاء، لم تتوقع أروى أن يكون هذا الجزء هو أكثر ما يلفت نظر قرائه، وكان يحبطها أن يكون تعليقهم الوحيد على الكتاب: "عجبتني الرسايل قوي".
***
كنت في الطريق إلى بيت أروى في مدينة الطلبة لمرافقتها إلى مشاهدة فيلم كوميدي، عندما أفقت من سرحاني، واكتشفت فجأة أنني فوِّت الشارع والعمارة، تمشيت في الشوارع المجاورة فبدت لي غريبة كأنها في بلد آخر، وعرفت أنني تائهة تمامًا، خطر لي أن أطلبها في التليفون عندما لمحت مكتبة صغيرة فاتجهت إليها، لم أكن أحتفظ في تلك الفترة بنوتة لأرقام التليفونات، بل كنت أحفظ أرقام الأقرباء والأصدقاء عن ظهر قلب، ولكنني صدمت عندما أمسكت بالسماعة واكتشفت أنني نسيت الرقم أيضًا، فأخذت أجرب بعصبية عدة أرقام في ذاكرتي، ولكن الرد "مفيش حد هنا اسمه أروى"، كدت أبكي وأنا أتخيل أروى جالسة في انتظاري، وأنا عاجزة عن التواصل معها، لحظة غريبة أشبه بحلم عاجزة عن إيقاظ نفسي منه.
بدا الموضوع بسيطًا في اليوم التالي عندما حكيت لأروى، واكتشفت أنها هي الأخرى قد نسيت موعد السينما، ثم ضحكت عندما ذكرت اسم الفيلم "نساء على حافة الانهيار العصبي".
إحنا ناقصين!
انشغلت بعدها في امتحانات المعهد ومشروع التخرج، عندما عرفت من بشير أن أروى تمر بنوبة اكتئاب ثقيلة، وأنها انتقلت للعيش مع شقيقتها عبلة حتى تتحسن حالتها.
لم أتخيل مدى ثقل تلك النوبة إلَّا عندما رأيتها بعد اختفائها بشهرين تقريبًا، فقدت الكثير من وزنها ويبدو عليها الوهن عرفت أنها خضعت لجلسات كهرباء في المستشفى بحجة تجفيف الهلاوس والأعراض الذهانية التي صاحبت نوبة الاكتئاب.
كانت تحكي بحياد كأنها تتحدث عن شخص آخر، عندما لفت نظرها قميص قطني أبيض معروض في أحد المحلات فانتابها مرح مفاجئ، وقررت أن تشتريه وتلبسه فورًا.
استمر مرحها حتى مكالمتنا في المساء، وهي تذكر تعليق شقيقتها عبلة على قميصها الأبيض "شكلك عامل زي الفقير الهندي".
طمأنني صوت عبلة في الأيام التالية حتى اعتقدت أن أروى في سبيلها لتعبر النوبة بسلام.
حكت لي أروى في إحدى المرات عن محاولة للانتحار، وكيف أراحها حسمها للقرار حتى استطاعت أن توهم شقيقيها عبلة وحمدي أنها بخير لينصرفا عنها، وبمجرد أن اطمأنا وغادراها إلى بيتهما نفذت خطتها، التي فشلت وقتها.
ولم يدُر في بالي عندما سمعت صوت عبلة مبتهجًا وهي تطمئنني على أروى أن تكون منهارة في اليوم التالي وهي تخبرني:
أروى مشيت خلاص!
اعتقدت في البداية أن عبلة تقصد أن أختها عادت إلى شقتها، وخلال ثوانٍ دارت في ذهني عشرات اللقطات والاحتمالات ليس من بينها أن أروى لم تعُد موجودة.
أدق على باب شقتها بإلحاح، قبل أن أمضي يائسة أجدها تفتح الباب وتستقبلني بدفئها المعهود، لم تمت إذن كما يقولون، بل إنها تضحك عندما أسألها "إنتِ ماموتيش بجد".
لعبة الإنكار ظلت مقاومتي الوحيدة لسنوات طويلة.
أتذكر عندما أهدتني كتابها "المبتسرون" ونص إهدائها الرقيق:
"يا رب تلاقي في الكتاب حاجة منك..
أروى"