تواريخ
هاني عبد العزيز99 عامًا على إنشاء مدينة بورفؤاد
2025.01.11
تصوير آخرون
99 عامًا على إنشاء مدينة بورفؤاد
شهد يوم 25 إبريل 1859 ضرب أول معول لحفر قناة السويس، في الموقع نفسه الذي شهد ظهور مدينة بورسعيد للوجود على الضفة الغربية للقناة.
وحتى أول مايو 1925، لم يكن بالضفة الشرقية لقناة السويس في المنطقة المواجهة لمدينة بورسعيد من مبانٍ سوى مبنى الحجر الصحي (الكارنتينا) الذي شُيد في غضون عام 1901، لعزل المسافرين المرضى بأمراض معدية.
ونتيجة لزيادة حركة المرور بالقناة وزيادة حمولات السفن، اضطرت شركة القناة إلى إنشاء بعض المخازن والورش والمستودعات في الضفة الشرقية وذلك لاستيعاب الزيادة المطردة في حركة المرور بالإضافة إلى تعاظم نشاط إصلاح السفن.
ومع تزايد العاملين بالورش ومخازن الشركة في الضفة الشرقية للقناة، ارتفعت أصواتهم بالشكوى لشعورهم بأنهم يعملون في ظل ظروف قاسية، لاختلاف ظروف العمل بينهم وبين أقرانهم الذين يعملون في بورسعيد، حيث أن الضفة الشرقية للقناة -التي أقيمت عليها مدينة بورفؤاد فيما بعد- كانت أرضًا قاحلة ومحرومة من كل مورد في ذلك الحين.
هكذا استدعت الحاجة إنشاء مدينة جديدة على الشاطىء الآسيوي تجاه مدينة بورسعيد، وإقامة مبانٍ عليها لسكن مستخدمي الشركة وعمالها المشتغلين في هذه المنشآت.
وبعد مفاوضات مع الحكومة المصرية استمرت خمس سنوات تمت الموافقة على استغلال الأرض الواقعة شرق القناة أمام مدينة بورسعيد بتاريخ 1 مايو 1925، ونشر القرار في الجريدة الرسمية.
وفي البداية كانت الشركة قد عزمت على إطلاق اسم "بورسعيد الشرقية" على تلك البقعة، إلا أن المجلس البلدي لمحافظة بورسعيد قرر بجلسة 21 نوفمبر 1920 أن يمنحها اسم "بورفؤاد" نسبة إلى السلطان فؤاد آنذاك.
وتم إبرام الاتفاق مع شركة القناة بتاريخ 11 أكتوبر من نفس العام، ووضعت التصميمات الهندسية لبورفؤاد على أحدث ما توصل إليه تخطيط المدن من أساليب، وصممت مبانيها ومنشآتها على الطراز الفرنسي كما اهتم المخطط بتعدد المتنزهات والميادين العامة.
وشهدت مدينة بورفؤاد حركة إعمار سريعة حتى افتتحها رسميًّا الملك فؤاد الأول في يوم الثلاثاء الموافق 21 ديسمبر 1926.
افتتاح مدينة بورفؤاد
وكان الملك فؤاد الأول قد وصل إلى بورسعيد على ظهر اليخت الملكي (المحروسة) مساء يوم 20 ديسمبر 1926، تحيط به بوارج خفر السواحل، والطوافاتان الأمير فاروق، والأمير عبد المنعم، ورست المحروسة أمام سراي شركة القنال (مبنى القبة حاليًّا) وقد نزلت موسيقات بورسعيد تتقدمها الموسيقى الوطنية والكشافات إلى عرض البحر أمام اليخت الملكي، وصدحت بألحانها الشعبية، بينما المدينة تموج بالآلاف المؤلفة من المتفرجين الذين توافدوا عليها من كل الجهات.
وفي اليوم التالي وصلت البارجة الحربية البريطانية "كونكورد" إلى ميناء بورسعيد قادمة من الإسكندرية وعلي متنها المندوب السامي البريطاني لورد لويد، وقد بدأت حفلات الافتتاح في الساعة الثالثة والنصف في سرادق ضخم أقيم فيه حفل شاي ألقيت أثناءه كلمات الترحيب، ولما عاد الملك إلى ظهر اليخت الملكي المحروسة في الخامسة والنصف مساءً توهجت سماء المدينة بالألعاب النارية.
الاحتفالات في الصحف العالمية
كان مراسلو الجرائد قد توافدوا على بورسعيد وبورفؤاد قبل الافتتاح بيوم لمتابعة استعدادات الاحتفال، ونشرت الصحف وصفًا بديعًا للاحتفال يوم الأربعاء 22 ديسمبر عام 1926.
كما سجلوا عددًا من الملاحظات، منها أن الشركة قد أنفقت مبالغ ضخمة ما تجلى في كل مكان من الأماكن التي مروا به:" وهي لم تألُ جهدًا في جعل احتفالها بحيث يبهر المدعوين ويكون فريدًا في بابه، فلم نشهد في هذا العهد مثالًا للأبهة والبذخ اللذين شاهدناها في هذا الاحتفال".
وسجلوا أيضًا أنها خصصت قطارين لنقل المدعوين إلى بورسعيد، وصل أولهما الساعة التاسعة صباحًا، وأُخذ على المنظمين أنهم لم يوفروا المقاعد الكافية للمدعوين ما سبب بعض الفوضى نتيجة للتدافع والتسابق على المقاعد.
وفي بورسعيد نصب الأهالي الثريات الكهربائية على واجهات منازلهم ومحال تجارتهم وكذلك المساجد والكنائس والمدارس والمصالح الأميرية والمحافظة والأقسام والبنوك والشركات وغيرها، حتى أصبحت المدينة "لابسة حلة قشيبة من جلال الزينة، فالكل مبتهج برؤية طلعة مليكه المفدى وهو ما لم يتأخر كثيرًا".
وتقول الصحف إن عددًا كبيرًا من المدعوين وأبناء بورسعيد قضوا شطرًا كبيرًا من الليل يرقصون في الكازينو وتجمعوا في الصباح على فوجين لتقلهم سفن بخارية صغيرة إلى بورفؤاد، وقد أعجب المدعوون من أنهم انتقلوا في دقائق معدودة من إفريقيا القارة المظلمة كما يسمونها إلى القارة التي أخرجت فلسفات وعقائد وديانات حيث رست السفينة على مرسى صغير عند الشاطئ الآسيوي الرملي الصحراوي.
وكان هناك بعض مندوبي شركة قناة السويس لاستقبال القادمين وساروا في مقدمتهم على الأقدام إلى مكان الاحتفال بين الزينات المختلفة يدخلون إليه من قوس نصر بديع يعلوه الشعار المصري.
وروت الصحف واقعة طريفة في هذه المناسبة فقد حدث أن وصل المندوب السامي البريطاني إلى بورسعيد في مظاهرة بحرية إذ كان على إحدى قطع الأسطول البريطاني في البحر المتوسط، الطرادة كونكورد التي رست إلى جوار المحروسة فتصور قائد الفرقة الموسيقية أنه الملك فأعطى الإشارة بعزف النشيد الملكي فاضطر جميع الموجودين إلى الوقوف ولما رأوا أن القادم هو اللورد لويد لا الملك بدت منهم حركات الاستغراب.
تحول مندوبوا الصحف بعد ذلك إلى وصف موقع الاحتفال فذكروا أنه قد أقيم في المكان الذي تقرر أن يكون محلًّا لبناء مجلس بلدي بورفؤاد (خلف مبنى المحكمة المختلطة الآن) وقد رأوا في صدر السرادق الكبير عرشًا مرتفعًا مخصصًا لجلوس الملك ومقعدًا مذهبًا بالقطيفة الحمراء يحوطه ستار مثله يعلوه التاج الملكي وإلى يمين العرش ثلاثة مقاعد مرتفعة أيضًا لمن دُعي من الأمراء و لم ينسوا في هذا الرصد أن يذكروا أن جميع الحضور قد ارتدوا "الردنجوت" باستثناء اللورد لويد والأدميرال البريطاني قائد الطراد !
انتظر الجميع قدوم الملك فؤاد الأول الذي كان قد نزل بورسعيد وركب المعدية داخل سيارته ولما وصل إلى الشاطئ الآسيوي أطلقت المدافع إحدى وعشرين طلقة ثم طاف الموكب الملكي المدينة ليرى جلالته المنشآت والتخطيط والمتنزهات حتى وصل إلى السرادق ولما دخل وقف الحاضرون وصفقوا وهتفوا بحياته بالفرنسية ثم بالعربية !
وافتتحت الجلسة بإلقاء خطبتين أولاهما من وكيل مجلس إدارة شركة القناة والثانية من رئيس الوزراء عدلي يكن باشا التي بدأها بالعربية بالتذكير بفضل الأسرة المالكة الذي يتجلى على طول القناة لا سيما سعيد وإسماعيل ثم أشار إلى تفضل فؤاد بمنح اسمه للمدينة الجديدة فضلًا عن رضائه السامي بزيارته لها، ثم تحول بعد ذلك لاستكمال كلمته بالفرنسية بحكم أن أغلب الحضور كانوا من رجال الشركة.
وضع حجر الأساس
كان موضوعًا قبالة العرش حجر الأساس فوق حجرين آخرين وقد حُفر في أحد نواحيه ثغرة مستطيلة متوازية الأضلاع لتوضع فيها الوثيقة المكتوبة باللغة العربية بالخط البديع الذي تُكتب به البراءات عادة، وبجانبها علبة حريرية فيها أربع قطع ذهبية من فئات خمسة جنيهات وجنيه ونصف جنيه وريال وماسورة نحاسية قوية داخلها أنبوبة زجاجية بسدادة خاصة و الماسورة بسدادة نحاسية لولبية.
و شاهد الحضور على المائدة الموضوعة أمام جلالته كمية من الأسمنت فوقها مسطرين من فضة مقبضه من خشب الأبنوس عليه تاج ملكي من ذهب و مطرقة على نفس النحو و قد نقش على كل منهم بالفرنسية "استخدم هذه المطرقة وهذا المسطرين صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول في وضع الحجر الأول من دار مجلس بلدي مدينة بورفؤاد".
وثيقة الافتتاح
"افتتحت مدينة بورفؤاد في 16 جمادى الآخرة سنة 1345ه. الموافق الثلاثاء 20 ديسمبر 1926م بحضور صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول في السنة العاشرة من حكمه يرافقه صاحب العزة عدلي يكن باشا رئيس الوزراء والمسيو جونار مدير عام شركة قنال السويس، كما حضرها جميع رجال الإدارة وأعضاء لجنة تأسيس مدينة بورفؤاد وهم إسماعيل رمزي باشا، أصلان قطاوي باشا (ممثلين عن الحكومة المصرية) والكونت دي سريون، البارون لوي دي بنواه (ممثلين عن شركة قنال السويس).
وكان آخر مراسم الحفل أن وضع الملك الوثيقة الرسمية في الثغرة الموجودة في حجر الأساس لتدفن مع قطع العملة الذهبية في باطن الأرض و كان مندوب جريدة الأهرام خفيف الظل عندما ذكر أنها مطمورة في باطن الأرض إلى أن يقيض الله لها كارتر أو كارنافون، أصحاب الفضل في كشف مقبرة توت عنخ آمون آخر، في القرن الستين أو السبعين بعد الميلاد لينقب عن آثار بورفؤاد.
ولم تُعْنَ الصحف المصرية وحدها بقيام آخر المدن الملوكية في أرض الكنانة بل إن تلك العناية قد انتقلت إلى صحف أخرى عديدة في الخارج، حتى أن جريدة التيمز اللندنية وضعت تقريرًا طويلًا عن الاحتفال امتدحت فيه المدينة الجديدة لما يتوفر لها من العوامل الجذابة والابتعاد عن الضوضاء والأقذار التي تُرى في مراكز التموين بالفحم.
كما أعربت الجريدة الإنجليزية عن أملها في أن تمضي مصلحة سكك حديد مصر قدمًا في مشروعها بجعل بورفؤاد رأس السكة الحديدية الفلسطينية بدلًا من القنطرة، خاصة وأنه يمكن وصل الخطين الحديديين المصري والفلسطيني بنظام من المعديات والزوارق لنقل المسافرين والبضائع بين البلدين وهو الأمل الذي لم يتحقق أبدًا، فقد بقيت بورفؤاد مجرد ضاحية جميلة للمدينة الأم بورسعيد حتى لو كانت قد حملت اسمًا ملوكيًّا أسعد صاحبه كثيرًا!
المصدر: فؤاد الأول، المعلوم والمجهول. دكتور يونان لبيب رزق، دار الشروق، الطبعة الأولى 2005.