فنون

محمد أبو النجا

"شحاتين ونبلاء".. عندما يُحسَد الصعاليك على عيشتهم!

2024.11.02

تصوير آخرون

"شحاتين ونبلاء".. عندما يُحسَد الصعاليك على عيشتهم!

عن رواية للكاتب ألبير قصيري، ظهر الفيلم المصري "شحاتين ونبلاء" عام 1991، للمخرجة أسماء البكري، التي افتتحته بخبر "جيوش الحلفاء تقتحم برلين"، على خلفية الحرب العالمية الثانية. مع جسامة الخبر المطبوع على ورقة جريدة، فشخصية جوهر، التي جسدها صلاح السعدني، تنام على الجرائد، غير عابئة بأخبار العالم، متخذة من الكسل والصعلكة طريقة للعيش. يشاركه في الطريقة نفسها شخصيتا الكردي، التي جسدها محمود الجندي، ويكن، التي جسدها أحمد آدم. ومع كون الثلاثة يطغون على الأحداث بأفكارهم ومساحة أدوراهم ونجومية أولهم، فلم أرَ أن الرحلة رحلتهم، بل لشخصية رابعة، الضابط نور الدين، الذي جسَّده عبد العزيز مخيون.

القتل بلا دافع

يجمع فيلمنا بين الصعاليك والمتسولين والعاهرات، في أجواء من العبث والاستهانة. هنا، يختار الكاتب ألبير قصيري التناقض، للتعبير عن أسئلته حول الحياة، يرسم شخصية نور الدين، ضابط بالوراثة، يكيل الحياة بكفة القانون والأعراف، نراه يختفي عن الأنظار في التواعد مع خليله لأن المجتمع يرفض المثلية الجنسية، ويتغاضى عن أعمال الفجور لأن القانون يكفل ذلك (قبل إلغاء الدعارة بشكل رسمي عام 1951 بموجب القانون 68).

ينتقل الضابط نور الدين إلى بيت بغاء، للبحث في جريمة قتل عاهرة، ولكنه يكتشف أنها جريمة بلا دافع، إذ إن الجاني لم يسرق أو يغتصب. كان لهذا أن يذبذب شخصًا مثله، مُشبَّعًا بالمنطق والخطوط الحمراء. إذ كان عليه أن يبحث عن مشتبه به يليق بتلك العبثية، لذلك يختار -من بين المترددين على الماخور- الشخصيات الثلاثة: يكن، الكردي، جوهر.

اعتناق الفلسفة قهرًا

يتبع نور الدين السبل التقليدية في البحث عن الجاني، يدس مخبِرًا وراء "يكن"، هذا الصعلوك المتردد على الماخور، ولكنه أفقر من أن يصبح زبونًا، فهو يقضي لهم بعض الخدمات، ويعيش على التسول من المقربين منه، مثل أمه، أو حتى العاهرة المجني عليها. ليس لديه أي مقومات للتنعم بالحياة، حتى أنه كاد يحسد شحاذًا معاقًا، فقط لأنه يمتلك زوجة تغار عليه، فيقول: "عمر ما واحدة ست غارت عليَّ، مش عارف ليه؟ مع إني في كامل قواي الجسمانية". لذلك عثر في فلسفة جوهر، على مبرر لضعفه أمام قدره التعيس، في خلقه قبيحًا معدمًا، اعتنقها وصار من المدافعين عنها، حتى أنها كانت السبب في نجاته من نور الدين، عندما قابل تهديده بأن حدَّثه عن القنبلة الذرية، حديث العالم حينذاك، قائلًا: "قدام تهديد قنبلة زي دي، تفتكر إيه اللي ممكن تاني يخوفني؟"

يستبعد نور الدين يكن منذ البداية، ربما شعر أن العبث ليس أصيلًا فيه، لذلك تبقى له شخصان: الكردي وجوهر. من منهما القاتل؟

إصلاح العالم

يعترف الكردي على نفسه بارتكاب جريمة القتل. إنه موظف في وزارة الأشغال العمومية، يجاوب بلسان القانون، ولكنه ناقم على المجتمع، يرى فيه المسؤول الأول والأخير عن هذه الجريمة. صفات كهذه تبعد عنه الشبهة، فلا تتفق الشخصية الثورية مع عبثية الجريمة، إنه صاحب دافع، يرغب في رفع الظلم. مع ذلك يعترف نور الدين أنه حائر في سبب تضحية الكردي بنفسه.

في مشاهد أخرى بعيدة عن نور الدين، يصرِّح الكردي لجوهر عن نيته تحرير الفتيات من الماخور، حد أنه كاد يسرق جواهرجي ليحررهم بثمن المسروقات، لذلك كانت الإجابة عند جوهر: "الكردي عامل تمام زي المصلحين اللي في العالم، كل اللي ما عندهمش وسيلة يقاموا بها الظلم، الكردي عايز يموت شهيد قضية". كان نور الدين قد قطع شوطًا معقولًا في رحلته، حدَّ أن فسّر للمخبر الذي أتى باعتراف الكردي: "الكردي يضحك عليك". يعلق المخبر مندهشًا: "ضحك عليَّ ازاي يا بيه؟ مش فاهم". يرد الأول: "ما تحاولش تفهم". لقد أدرك نور الدين أخيرًا، أن بعض الأمور في الحياة لا تُفهَم، لذلك كان عليه أن ينتهي بالشخصية الأخيرة: جوهر.

النبيل يحسد الصعلوك

لا يطرح الفيلم قصة بوليسية بمعالجتها المشهورة في البحث عن قاتل، حتى ولو كان هذا هو الهدف الأول لنور الدين: "أنا عايز أقبض على الجاني وبس"، بل إن الجريمة تظهر كاملة في الربع الأول، عندما تضيق رؤية جوهر عند أساور العاهرة، فيقتلها خنقًا. قد يحتار المشاهد في هذا التناقض، إذ ظهر جوهر منذ البداية رجلًا شديد التقشف، والأدهى أنه يدرك زيف الأساور، فلماذا طمع فيها؟ لقد مثَّلت له قيمة حينذاك، رأى فيها الوسيلة في الحصول على الحشيش، هذا بعد غياب صديقه يكن. إذ إن الكاتب ألبير قصيري استعان بالحشيش ليكون وسيلة جوهر للغياب عن الواقع، وما يمثله له من مأساة، وبفقدانه فقدَ رشده للحظات، كانت كفيلة لارتكابه جريمة قتل.

يجتمع نور الدين بالثلاثة، ويقدم إليهم خليله. تلك الخطوة تُظهر التحول في شخصه، إذ بات يستخف بالمجتمع، إذن، ماذا تبقى ليستهين أيضًا بالقانون؟ إنه هذا الاجتماع، الذي سيتضح فيه الهدف من فيلمنا. لماذا يقضي عمره للقبض على إنسان آخر بدلًا من الاستمتاع بالحياة القصيرة؟ إن القتل بلا دافع كالزلزال، الاثنان نتيجة القضاء والقدر. بما أنه يعجز عن منع الزلزال، أو حتى إلقاء القنبلة الذرية، صنيعة الإنسان، فلماذا يقبض على إنسان مسكين؟

يقول جوهر ليكَن، واصفًا نور الدين: "ده إنسان قلق ومعذب ما يشكلش أي خطورة، ما شوفتش كم الأسى والحزن في عينيه.. على فكرة ده بيحسدنا على وضعنا".

شاي بالنعناع

ارتبط ظهور نبات النعناع بظهور جوهر، هو يستخدمه كتصبيرة تعينه على نقص الحشيش، فلمَّا نشط نهارًا على غير عادته، وجب عليه أن يكبح القلق الذي يطحن رأسه. إذن، ظهور النعناع يعني أنه قلق. بعد ترسيخ هذه الرمزية مع جوهر في الربع الأول من الفيلم، تظهر في الأخير لترتبط بنور الدين، عندما يطلب بنفسه شايًا بالنعناع، ليشير لنا صُناع الفيلم إلى أنه إنسان قلق، ولكنه يشغل مهنة تمنع الحشيش، فماذا يفعل ليكبح قلقه؟

إسقاط القنبلة الذرية

يزور نور الدين جوهر في بيته، يندهش، لماذا يترك أستاذ جامعي الحياة الكريمة التي توفرها له مهنته ليعيش حياة شديدة الشظف؟ يجيبه جوهر: "أنا بعيش كده لإني بحب أعيش كده، حياة من غير قيود". يجرب نور الدين أن يفترش الجرائد (سرير جوهر) فينام. هذا المشهد يأتي بعد مشهد له في بيته النظيف المفروش بأفضل الفراش، ولكنه يعيش فيه قلقًا.

لقد حصر جوهر نور الدين في سؤال: "عليك أن تختار بين التقدم أو راحة البال". بدت لنور الدين الإجابة، بعد تجربته للفراش المصنوع من الصحف، ولكنه يريد أن يخوض تجربته الأخيرة في الحصول على أسئلة منطقية، فيستجوب يكَن مستعينًا بتعذيبه، ولكنه لا يحصد إلا العبث. يطرد يكَن من القسم في حالة انفعال: "برَّه، إرموه برَّه، مش عايز أشوف وشه"، ثم يلقي الطربوش على صورة مُعلَّقة للملك. هنا، جسَّدت المخرجة أسماء البكري تحرره من القانون، وكأنه يقصد الملك بكلماته، لتقطع بعدها المشهد على صورة لانفجار القنبلة الذرية، وحالة من الهستيرية تميز الشارع. لقد مسحت القنبلة مدينة بأكملها، فما فائدة القبض على إنسان مسكين؟

يظهر نور الدين في هيئة صعلوك، بنظرات شاردة، حتى إذا رأى جوهر ابتسم، وتنهد كالذي يزفر الهموم، نرى أنه ينظر إلى صديق لا قاتل. أخيرًا، تنتهي رحلة نور الدين بعدما اختار أن يعيش عيشة الصعلوك، لقد اختار "راحة البال".