دراسات
مريم أشرف طاهرحدوتة "الشاطر حسن" وفيلم "رد قلبي" – الجزء الثاني
2025.01.04
تصوير آخرون
استلهام حدوتة "الشاطر حسن" في السينما المصرية: فيلم "رد قلبي" نموذجًا – الجزء الثاني
(3)
تعتمد الأفلام السينمائية في كثير من الأحيان على "الاقتباس" عن الأعمال الفنية –على اختلافها- فيوجد الاقتباس عن فيلم آخر –ربما ينتمي إلى ثقافة مغايرة- ويوجد كذلك الاقتباس عن أعمال أدبية مثل الاقتباس عن نصوص روائية، كما يمكن ملاحظة حضور "الثقافة الشعبية" -بما تحمل من فنون وعادات وتقاليد- حضورًا واضحًا في السينما، وأحيانًا يكون التصريح بهذا الاقتباس واضحًا، كأن يُعرض فيلم يحمل عنوانه اسم أحد الأبطال الشعبيين، وفي أحيان كثيرة يكون مجرد استلهام، حيث يقوم الفيلم على ثيمات مستوحاة من الثقافة الشعبية وأغنياتها وسير أبطالها وحواديتها.
يمثل هذا الاستلهام أو الاقتباس من أعمال فنية مختلفة بعدًا مهمًّا في إنتاج كثير من الأفلام السينمائية، فهو يعد وسيلة مساعدة للفنان، حيث تحيله تلك الأعمال الفنية إلى أفكار وتصورات تمكنه من إنتاج فيلم سينمائي وثيق الصلة بالثقافة التي يتولد منها. "فالفنان حينما يرتاد بخياله عوالم تجاربه تقف اللغة حائلًا بينه وبين التعبير الكامل عما يجول في نفسه من خواطر. فإذا عثر على استعارة تجلو ما في نفسه من مشاعر ارتاح إليها وتبناها، فما بالنا إذا عثر على هيكل استعاري كامل يستعرض من خلاله أفكاره! ولكن التساؤل يجد مجاله حينما يصطنع الفنان أسلوب الحكاية الخرافية أي الأسلوب اللامنطقي في عصر يسوده التفكير والمنطق"[1].
إذن كيف يمكن أن يعبر فيلم سينمائي وليد في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين عن استلهام إحدى الحواديت التي تتنمي إلى الثقافة الشعبية وتحمل في طياتها بعض الجوانب الخرافية؟ وللإجابة على هذا التساؤل لا بد من التوقف عند بنية كلا العملين ومحاولة استنباط أهم الآليات التي أسهمت في تشكيل تلك البنية ومن ثم تحديد مدى اتفاق البنيتين أو اختلافهما، وذلك من خلال الاستعانة ببعض الوظائف التي حددها فلاديمير بروب لبناء الحكاية الخرافية.
يمثل "الابتعاد" إحدى وظائف بروب، فهو يعد الوظيفة الأولى التي تنطلق منها الحكاية الخرافية، ويحددها بروب في أن "أحد أفراد الأسرة يبتعد عن المنزل.. تمثل وفاة الوالدين شكلًا معززًا من أشكال الابتعاد"[2]. ويظهر "الابتعاد" في حدوتة الشاطر حسن في موضعين، الأول حين ماتت أم الشاطر حسن، وهو ابتعاد لعب دورًا مهمًّا في حياته، وأضفى عليها كثيرًا من الحزن سواء أكان هذا الحزن مرتبطًا بفقدها أو بزواج أبيه فيما بعد، والموضع الثاني للابتعاد يأتي مع هروب المهرة بالشاطر حسن إلى مكان مجهول حتى تنقذ نفسها وتحميه هو أيضًا من الحزن على فقدها، وشكَّل هذا الابتعاد عنصرًا جوهريًّا في حركة الأحداث وبنائها، حيث تحول حال الشاطر حسن تمامًا حتى إنه قد فقد كل شيء يملكه تقريبًا إلا تلك "المهرة". أما في الفيلم، فقد ظهر الابتعاد في أكثر من موضع، وشكَّل عنصرًا مهيمنًا في بناء أحداث الفيلم، ويتمحور "الابتعاد" الأول حول القرار الذي اتخذه البطل (علي) عندما كان صغيرًا، وهو الابتعاد التام عن قصر الباشا ما يجعله بعيدًا عن الأميرة إنجي، ثم يأتي الابتعاد الثاني وهو بمثابة حياة جديدة تبدل حال علي إلى حال أفضل، وهو الابتعاد الذي نتج من اختياره الالتحاق بالمدرسة الحربية، ما يؤدي ذلك إلى الابتعاد طويلًا عن الأهل والأصدقاء، لكنه أقبل على هذا الابتعاد كي يتمكن من الدراسة جيدًا ليصبح ضابطًا في الجيش ما يجعله مناسبًا للطبقة التي تنتمي إليها حبيبته إنجي، كما يظهر الابتعاد للمرة الثالثة حين يضطر علي إلى السفر بعيدًا امتثالًا لأوامر وظيفته، ثم أخيرًا الابتعاد الذي نتج من وفاة كريمة إثر احتراقها أثناء حريق القاهرة، ولولا هذا لأصبحت زوجته في اليوم نفسه، وسارت الأحداث في طريق مغاير.
ويلي وظيفة الابتعاد عند بروب وظيفة أخرى تتمثل في "إبلاغ البطل بالمحظور"[3]. وتشكل هذه الوظيفة بعدًا مهمًّا في بناء الأحداث في كلا العملين، ففي الحدوتة تساعد "المهرة" الشاطر حسن وتنقذه من خطة خلاص زوجة أبيه منه، وتبلغه بالمحظور الذي كان سيقع فيه، لكنها لم تعطِ له فرصة الاختيار، حيث قررت المهرة كيفية تجاوز هذا الخطر والتعامل معه، ثم يظهر هذا الإبلاغ للمرة الثانية في الحدوتة عندما كان عم حافظ الجنايني يحاول أن يقنع الشاطر حسن بألا يحب الأميرة ست الحسن، فجاء على لسان الراوية:
"الواد حب البنت.. وهيه حبته، يوم ف يوم الجنايني.. اللي هوه أما يشتغل معاه ده.. عمك حافظ، خد باله، قال له: يا حسن. قال له: نعم. قال له: يا ابني دي بنت ملك ومش على طول إيدنا.. احنا يا ابني ناس غلابة وعلى قد حالنا، وعايزين ناكلها بالحلال، فسايق عليك النبي يا ابني متقطعش رزقنا.... أنا يا ابني شايفك متعلق ف حبال دايبه، والملك لو خد خبر يا حسن مش هيحصل طيب."[4]
وعلى الطريقة نفسها يبلغ والد علي ابنه في الفيلم بالمحظور الذي لا بد من تجنبه فيقول:
"اسمع يا علي.. مش أنا وحدي بس يا ابني اللي خدت بالي من الحكاية دي، ناس كتير ابتدت تتكلم، والكلام وصل للأمير علاء.. ست دلبار قالت لي إنه هدد بقطع عيشي، وغصب على الأميرة تسافر أسوان، اللي بيحب يا ابني بيفكر وبيشوف بقلبه مش بعينيه وعقله، انت عارف إن إحنا بعنا الفدانين ومابقاش فاضل إلا البيت ده يتاوينا، أنا محتاج للمهية اللي باخدها"[5].
ويتبين من هذا التقارب بين العملين في استخدام هذه الوظيفة أن هناك اتفاقًا يمكن ملاحظته وإدراكه في تشكيل الهيكل الذي تقوم عليه الحدوتة من ناحية والفيلم من ناحية أخرى.
وينتقل بروب إلى وظيفة أخرى تتعلق بظهور شخصية جديدة تبطن شرًّا للبطل، فيقول: "وهنا تظهر شخصية جديدة في القصة نستطيع وصفها بشخصية المعتدي على البطل، أو شخصية الشرير. ودور هذه الشخصية تعكير صفو العائلة السعيدة، وإنزال المصيبة بها، وإلحاق الأذى.. ويمكن أن يكون عدو البطل تنينًا أو شيطانًا أو قاطع طريق أو ساحرة أو زوجة أب.. إلخ."[6] وفي إطار هذه الشخصية التي يحددها بروب بسِمات تجعلها شريرة شرًّا خالصًا ولا تتراوح أفعالها بين الخير والشر كطبيعة البشر جميعًا، يمكن التوقف عند شخصية زوجة الأب في حدوتة الشاطر حسن، وما ملأ قلبها من بغض له وإصرار على التخلص منه لمجرد حبها للتملك ورغبتها في عدم مشاركة أحد أملاك زوجها، فلا تفكر في أنه فقد أمه وهو لم يُتم إلا أيامًا قليلة من عمره، ولا تتحرك إنسانيتها الخيرة لتتراجع عمَّا تفكر فيه من ضرر تريد أن توقع فيه الشاطر حسن. أما في الفيلم فيتضح هذا الشر مع شخصية علاء أخي إنجي، وقد ظهر في كل مشهد من مشاهده في هذا الفيلم معبرًا عن بغضه لعلي، ومحاولًا استخدام الوسيلة نفسها التي كانت تخطط لها زوجة الأب في الحدوتة، وهي إلحاق الأذى النفسي بعلي والتقليل من شأنه ومن شأن أسرته التي تنتمي إلى طبقة تبعد كثيرًا عن الطبقة التي ينتمي إليها علاء، ولم يتوقف شره عند هذا الحد بل حاول أن يتخلص من علي بقتله مثلما كانت تقدم زوجة الأب في الحدوتة على قتل حسن بالحسرة على مهرته، ولكن الاثنين لم ينجحا في نهاية الأمر، ومع ذلك فقد شكلا تحقيقًا لبعض الوظائف التي ربطها بروب بالشخصية الشريرة/ المعتدي، ومنها "مخلوق عدواني يحاول القضاء على البطل.. مخلوق عدواني يدخل في صراع مع البطل"[7].
وبالانتقال إلى وظيفة أخرى حددها بروب في "يُنقل البطل أو يُقاد أو يصطحب إلى المكان الذي توجد فيه ضالته"[8]. فالشاطر حسن قرر أن يذهب إلى الغابة البعيدة المحاطة بمخاطر عديدة يمكن أن تودي بحياته في سبيل أن يعود باللبن وتشفى زوجة الملك ويتحقق بذلك شرط زواجه بالأميرة ست الحسن، وكأنه بذلك انقاد لهذا المكان كي يحقق رغبة أبعد من الحصول على اللبن، ويتبين ذلك في حواره مع عم حافظ:
"الشاطر حسن قال: أنا هروح أجيبه.. يا ابني انته هترمي نفسك ع الموت.. دا مين؟.. ده الجنايني.. دول يا ابني سبع جبال، وإن عديت من جبل مش هتعدي يا حسن من التاني. قال له: عشان خاطر ست الحسن هروح واجيبه. قال له: يا ابني دا ماحدش راح هناك ورجع.. دول سبع جبال يا حسن. وانته لا معاك حصان ولا معاك سيف ولا معاك حاجتن تخلق. قال له معايا ربنا، وربنا مع الغلبان معين."[9]
أما في الفيلم فبعد أن نجح علي في البكالوريا أخذ يفكر مع أهله فيما سيكمل فيه دراسته العليا، ودار الحديث بين علي وأمه وأبيه وأخيه حسين، واقترحوا على علي أن يلتحق بالمدرسة الحربية، لكنه كان مترددًا بسبب إيمانه بأن دخول الحربية لا بد له من "واسطة" وهم فقراء ليس لهم سلطان ولا جاه يستعينون به، حتى رأى علي أن دخوله الحربية يحتاج إلى معجزة، واستمر الحوار إلى أن لفظ أخوه حسين ببعض الكلمات أحيت في قلب علي أملًا في دخول الحربية، حيث قال حسين:
"علي يا ويكا، أما الحكاية دي لو اتحققت يبقى خلاص.. الحيطة اللي بينك وبين إنجي تنهد.. يبقى زيك زي أبوها، هو كان ظابط في الجيش التركي، انت هتبقى ظابط في الجيش المصري"[10].
وفي كلا العملين يتبين أن هناك أملًا ارتبط تحقيقه بالانقياد إلى "مكان" معين، ظنًّا من كلا البطلين أن العقبة المانعة للوصول إلى "المحبوبة" ستنحل بمجرد الإتيان باللبن في حالة الشاطر حسن، والالتحاق بالحربية في حالة علي، وفي الحالتين أيضًا يتحقق معنى السفر والغربة، وإن كانت مؤقتة.
يبلور بروب بعض الوظائف التي ترتبط بالبطل ودخوله في المعركة، فيحدد إحدى الوظائف بــ"يتواجه البطل والمعتدي في معركة"[11]، واستكمالًا للمعركة وما يترتب عليها من بعض الإصابات التي يمكن أن تقع على البطل، يحدد بروب وظيفة أخرى: "يوسم البطل بالعلامة.. فإما أن تكون السمة مطبوعة على جسده، كأن يجرح أثناء المعركة.. وإما أن يتلقى البطل خاتمًا أو منديلًا. وقد يلتقي الشكلان عندما يجرح البطل في المعركة، ويضمد جرحه بمنديل الأميرة أو الملك"[12]. وانطلاقًا من هذه الوظائف يمكن رصد العلاقة بين البطل والمعتدي في المعركة داخل العملين، ففي الحدوتة تظهر المعركة بشكل واضح حينما يعتدي ملك من بلد آخر على البلد الذي يقطن فيه الشاطر حسن ويريد السيطرة بجيشه عليه، ولم يستطِع أحد أن يوقف هذا الملك وجيشه إلا الشاطر حسن الذي ظل شخصية غامضة عند أهل البلدة لم يتمكنوا من تمييزه إلا بجرح في جبهته أصيب به أثناء المعركة. أما بطل الفيلم علي فقد دخل معركة لها بُعد أكبر مما عرضته الشاشة في ثوانٍ معدودة، فبالرغم من إصابته بجرح بسيط -خلال المشاهد الأولى من الفيلم- من شاب يبدو طائشًا فإن هذا الجرح يعبر عن أبعاد ترتبط بالصراع بين الطبقات، وتحولت المعركة إلى معركة لفظية تحكمها الكلمة، وظهر هذا خلال الحوار الذي دار بين علي وعلاء، حيث جاء كالآتي:
"علي: جايز الطلقة طلعت غصب عنه، علاء: لا يا شاطر دي متنشنة مظبوط.. عشان تبطل تهادي الناس اللي إنت مش من مقامهم حاجة مش بتاعتك، ولا عشان لبست لي الشريط الأحمر.. الهدوم مهما كانت ماتغيرش أصل اللي لابسها. علي: البني آدم مش بأصله ولا بهدومه، البني آدم بنفسه.. ياما ناس كانت في الحضيض وبقت في السما.. جدودك مثلًا! كانوا بياعين دخان وبقوا ملوك، وفيه غيرهم كانوا ملوك وبقوا شحاتين.. جيل في الأرض وجيل في السما.. علاء: المرة دي جات في صباعك، المرة الجاية الإصابة هتكون أسهل لأن الهدف هيكون أكبر".[13]
وينبئ هذا الحوار عن استمرار تلك المعركة طوال الفيلم حتى تنتهي إما بهزيمة البطل أو انتصاره. وانتهى المشهد بعنصر "المنديل" الذي حدده بروب في وظيفته، حيث استأثرت به البطلة لنفسها للاحتفاظ به وبما يحمله من دم حبيبها الذي نتج من الجرح.
وبالنظر إلى ما تقدم من محاولة الكشف عن بعض وظائف بروب لبناء الحكاية الخرافية داخل العملين، يمكن ملاحظة أن كلا العملين انطلق من وحدات بنائية متشابهة إلى حد ما، مع إضافة بعض الأدوات الفنية التي تعطي كل عمل خصوصيته الفنية، فالحدوتة تميل إلى بساطة الحدث وسرعة مروره دون الوقوف عند تفاصيل دقيقة تطيل الحدث وتجعله يتشعب إلى نواحٍ عدة، وهذا على عكس ما ظهر في الفيلم، فقد تقارب في بنائه مع الحدوتة من خلال الوظائف التي تمت الإشارة إليها لكنه مع ذلك أضاف لمسات أخرى تقرب الأحداث من بيئة عصرها من ناحية، وتضفي على الحكاية طابعها السينمائي من ناحية أخرى.
(4)
ارتبطت الحواديت الشعبية بثيمات يمكن تتبعها في عدد كبير منها، حتى أصبحت جزءًا أصيلًا في تشكيل مضمون الحواديت على اختلاف أبطالها وشخصياتها، وتنطلق هذه الثيمات أحيانًا من أنماط ثقافية واجتماعية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالشعب ومبادئه وما يعيشه وما يطمح إليه. وهذه الثيمات ارتبطت ارتباطًا واضحًا بفن الحكاية الشعبية بوجه عام، حيث "تظل الحكاية الشعبية محتفظة بإمكانات كبيرة، تساعد على التعبير عن الوجدان الجماعي، تحمل هموم الناس، وتزودهم بخبرات وتجارب وثقافات، تمس وجدان الفرد، وتنتمي إلى ذاته، وترتبط بها، لتمنحه الإحساس بالانتماء إلى الجماعة، والانسجام معها، وهو غاية ما تسعى إليه فنون القول".[14]
وأول هذه الثيمات التي يمكن ملاحظتها في كلا العملين (الحدوتة والفيلم) ثيمة "الصراع بين الطبقات"، حيث يمثل الصراع بين الطبقات في العملين بعدًا مهمًّا يجعل الوصول إلى الأمنيات البعيدة التي ترتبط بطبقة أعلى أو أدنى تتسم بكثير من الصعوبات، وفي سبيل وصول الأبطال إلى هذه الأمنيات يدفع كل منهم كثيرًا من عمره وراحته النفسية والجسدية، وفي النهاية ربما لا يستطيع الوصول أيضًا.
ينطلق مفهوم "صراع الطبقات" من كون كل طبقة تريد أن تحافظ على هويتها ومكانتها الاجتماعية دون اختلاطها نسبًا –على وجه التحديد- بالطبقات الأدنى، في حين تسعى الطبقات الدنيا إلى الاقتراب اجتماعيًّا وثقافيًّا من الطبقات التي تعلوها رغبة في الارتقاء بمعيشتهم، وأحيانًا تكون الرغبة منحصرة فقط في نيل واحد من أفراد هذه الطبقة.
وتلك الثيمة لم تكن قاصرة على فنون الأدب الشعبي أو فن السينما فحسب، بل إن حضورها ارتبط بوجود الإنسان وظهور حضارات واختفاء أخرى، وقد عُبر عن ذلك الصراع بأشكال شتى فنية وعلمية وسياسية وفلسفية.
ويظهر الصراع بين الطبقات في كلا العملين في قضية "الحب"، حيث تحب الأميرة بنت الملك أو الباشا شابًّا فقيرًا يعمل "جنايني" –كما في الحدوتة- أو آل به القدر ليكون ابن جنايني –كما في الفيلم- ويتولد هذا الصراع من المحيطين بالأبطال، فالبطل والبطلة في كلا العملين لا مشكلة لديهما في هذه العلاقة التي لا يرون فيها إلا أملًا في حياة أفضل وأكثر سعادة، لكن "الأب" يرى عكس ذلك، حيث إن الأب في الحدوتة يتأثر بكلام الوزير الذي استنكر على الملك أن "يعطي ابنته لجنايني!" وحرضه على الرجوع فيما وعد به الشاطر حسن إذا ما أتى باللبن الذي سيشفي زوجته، والاكتفاء بإعطائه بعض النقود مكافأة له. وعلى الطريقة نفسها يتعامل "الباشا" في الفيلم مع أبي علي، فيأتي المشهد على النحو التالي:
"أبو علي: ولادي بقم ظباط.. وابني علي اترقى ملازم أول وهيترقى كمان.. هييجي يوم يبقى لِوا.. باشا يعني.. وسموك لو تشوفه دلوقتي تقول عليه ابن ناس أكابر.. أما من ناحيتي أنا.. فأنا خلاص قربت أموت وبعدها الناس هتنسى إنه كان ابن جنايني.. أصل أنا عارف إن ده اللي هيخلي سموك تعارض.. الباشا: أعارض في إيه؟ أبو علي: في إنه.. ربنا يخليك يافندينا.. يتجوز بنتك.. الباشا: يتجوز إيييه؟.. أبو علي: إنجي هانم.. ربنا يخليهالك.. الباشا: اطلع برا اطلع برا يا كلب.. أبو علي: يافندينا.. إحنا كلنا بشر.. واللي خلقنا واحد.. هنتساوى قدامه في الآخرة باللي عملناه في الدنيا".[15]
شكلت "المرأة" وما تقوم به من أدوار في فنون الأدب الشعبي بعدًا مهمًّا، وكذلك تناولتها السينما بالوقوف عند أهم ما يرتبط بها اجتماعيًّا وثقافيًّا لرصد وضعها المجتمعي حينًا، ومساعدتها في قضاياها الخاصة حينًا آخر. ولم يغفل كلا العملين حضور المرأة وتشكلاتها المتباينة، فظهرت شخصيات عدة تؤديها المرأة في العملين، فتوقفت الحدوتة عند المرأة الأم وزوجة الأب والخادمة والأميرة المحبوبة، في حين توقف الفيلم عند المرأة الأم والشابة الفقيرة التي تعيش مع من بقي من أقاربها والراقصة والأميرة المحبوبة. ويمكن التوقف هنا عند أهم أبعاد المرأة المحبوبة في كلا العملين.
تتفق كلتا الأميرتين (ست الحسن وإنجي) على مشاعر الحب التي تكنها لكلا البطلين (الشاطر حسن وعلي)، ويتبين من مواقف عدة على امتداد العملين أن كلتيهما صادقتان في هذه المشاعر ولا تهتم كل منهما بأي أمر يتعلق بالبعد الطبقي بينهما من ناحية وبين البطلين من ناحية أخرى. لكن الاختلاف بينهما نتج من مدى المقاومة التي قامتا بها لمواجهة رد فعل الملك/ الباشا. ففي الحدوتة تعبر الراوية عن رفض الأميرة الزواج بالوزير رفضًا لا رجعة فيه، ووقوفها أمام أبيها في تحدٍّ، ويبرز هذا الرفض فيما تحكيه الراوية في قولها:
"إن كنت ناوي على كده أنا هسيبلك الدنيا كلها وأمشي. قال لها: حسك عينك تعملي كده، وإن سبتي القصر ده مش هترجعيله تاني، ولا هتبقي بنتي ولا أعرفك. قالت له: أحسن.. خير ما يقولوا بنت الملك الفلاني اللي لحس كلمته، وعطى بنته لوزيره خوف منه.. قال لها: اخرسي.. وراح ضاربها كفين وزايحها بره القصر. وقال لها: ف ستين داهيه، مش عايز أشوف وشك.. لمت هدومها يا نضري ف شنطه، وخدتها ونزلت على حسن."[16]
أما في الفيلم فعبرت إنجي عن مدى استسلامها وانصياعها لأوامر والدها دون مراجعته أو الدفاع عن حبها، فقد أمر بسفرها إلى أسوان، ثم أمرها بعد ذلك بالخطبة برجل لا تحبه، حتى إن هذا الاستسلام قد جعل عليًّا نفسه يشك في مدى حبها إياه، ثم آمن بأن هذا الحب كان مجرد خدعة كاذبة، ولا مكان له في قلبها.
والاختلاف بين الشخصيتين ربما يحيل إلى ضرورة التفكير في دور المرأة وحضورها في الثقافة الشعبية وكيفية إبراز هذا الدور في الفنون الشعبية في ضوء ارتباطه بالمجتمع وعاداته وتقاليده، فهذه الحدوتة أكدت رؤية عميقة حول المرأة التي تظهر بشخصية قوية وتتسم بالجرأة والصرامة في اتخاذ قرارها حتى وإن كان ضد أبيها الملك. في حين صورتها شاشة السينما ضعيفة ساكنة تستسلم لأقدارها دون مقاومة رغم ما تعانيه من ألم داخلها.
تعد البطولة إحدى الثيمات التي ارتبطت بفنون الأدب الشعبي على اختلافها، لكنها تظهر في الحدوتة بشكل أقل عنفًا عمَّا يمكن أن تصوره بطولة السيرة الشعبية، على سبيل المثال. و"البطولة تعني الغلبة على الأقران، وهي غلبة يرتفع بها البطل عمن حوله من الناس العاديين ارتفاعًا يملأ نفوسهم له إجلالًا وإكبارًا. هذه البطولة تبدأ من اللحظة التي يتمرد فيها البطل على ما هو سلبي في مجتمعه ويسلك مسلكًا يحطم به هذا الواقع السلبي."[17]
تظهر البطولة في الحدوتة فيما حققه الشاطر حسن من انتصار على الملك المعتدي بجيشه على البلد الماكث فيه حسن، وتتمثل البطولة في صورة يتخللها بعض الخرافة، لاعتماده على مساعدة المُهرة في التخلص من هذا الاعتداء، وانفرد الشاطر حسن بأداء المعركة حتى انتصر وتقهقر الملك ومن بقي معه من الجيش وعادوا من حيث أتوا. وعلى الجانب الآخر فقد استلهم الفيلم هذا المفهوم للبطولة لكن مع مزجه بالواقع السياسي للمجتمع الممثل فيه، "فالضابط الشاب علي يشترك في حرب فلسطين، ويعود بعد الهزيمة ليجد مظاهر السخط والتمرد تزداد انتشارًا في الجيش بفضل جهود الضباط الأحرار. ويربط الفيلم بين أحداث عديدة شاهدها الوطن، وأدت إلى الثورة، وبين أمور خاصة في حياة علي فحريق القاهرة يحاصر الراقصة التي ارتبط بها علي. أي أن العام ارتبط بالخاص. وبعد هذا الحادث ينضم علي إلى الضباط الأحرار، ويجتمعون معًا في مشهد مهيب للقسم على أن يتعاونوا معًا من أجل إبعاد الملك عن الحكم".[18]
فهذه الإشارة إلى انضمام علي إلى الضباط الأحرار تمثل بعدًا من أبعاد البطولة، فهو يسعى بهذا الانضام إلى التخلص من الحكم الملكي الذي يظلم أفراد الشعب ويجعل كل ثروات البلاد حكرًا على الأسرة المالكة وبقية الشعب ما هم إلا عبيد. فهذا التخلص من الحكم الملكي يقارب ثيمة البطولة من تخلص الشاطر الحسن من الملك المعتدي والانتصار عليه، وتتقارب كذلك صورة الاحتفال والاحتفاء بهذا الانتصار مع ما جاء في الفيلم من خروج الشعب في الشارع وشعورهم بهذا النصر العظيم مرددين عبارات "تحيا مصر.. تحيا الثورة" مشيرًا إلى الوعي الجمعي وتأثيره وتأثره في المجتمع، وكأن البطولة بهذا الشكل تحولت من بطولة فردية يسعى إلى تحقيقها شخص واحد (بطل الحكاية) إلى بطولة جمعية تترسخ مبادئها في وجدان الشعب.
تركز الحواديت –على الأغلب- في أن تكون نهايتها نهاية سعيدة، حيث تمثل هذه النهاية السعيدة ثيمة أساسية، وتختلف تلك النهايات بحسب مضمون الحكاية، لكنها لا تخرج عن الشعور بالسعادة والأمل في القادم. وتُختم حدوتة "الشاطر حسن" بهذه النهاية التقليدية لكثير من الحواديت المتمثلة في زواج البطل بالمحبوبة التي ظل يحارب كثيرًا للوصول إليها. وعلى طريقة تقترب من هذه النهاية ينتهي فيلم "رد قلبي"، حيث يأتي المشهد الأخير من الفيلم معبرًا عن اجتماع علي وإنجي معًا بعد وقت طويل قد مر بين قرب خفي وابتعاد إجباري.
خاتمة
وبعد هذا الاستعراض لأهم ملامح استلهام حدوتة "الشاطر حسن" داخل الفيلم السينمائي "رد قلبي" يمكن تبين مدى التقارب من البنية التشكيلية التي كوّنت كلا العملين، ومدى استعانة الفيلم بوظائف الحكي الشعبي وأدواته في بناء الحدث السينمائي، والتي تمثلت في الابتعاد، والإبلاغ عن المحظور، والشخصية الشريرة وما ارتبط بها من أفعال سيئة حددها بروب، والانتقال إلى المكان الذي يجد فيه البطل ضالته، كما استلهم الفيلم وظيفة لقاء المعتدي في معركة وما ينتج منها من جرح يصبح بمثابة علامة تميز البطل.
ولم يتوقف الاستلهام عند حدود الاستعانة بهذه الوظائف، بل راح إلى أبعد من البناء الشكلي مقتبسًا من الحدوتة أهم الثيمات التي تشكلها من ناحية المضمون، والوقوف عند قضايا تتقارب في طرحها إلى حد ما لكنها تختلف في بعض الجوانب المتعلقة بالمجتمع وتغيراته الثقافية والاجتماعية والسياسية من ناحية، والجوانب المتصلة بالطابع الفني السينمائي من ناحية أخرى، كما ظهر في تناول المرأة أو البطولة على سبيل المثال.
إذن فحضور الأدب الشعبي بسماته وفنونه المختلفة في السينما المصرية يمكن الالتفات إليه واستغلاله في التأصيل لهذه الفنون التي ما زالت حتى الآن تعاني إما من النظرة المهمشة لها وإما من ضياعها مع فقدان رواتها يومًا بعد يوم، فربما تسهم السينما في المحافظة على بعض تقاليد هذه الفنون وتصبح فيما بعد راويًا لها ينقلها عبر أجيال مختلفة.
قائمة المصادر والمراجع
أولًا المصادر:
- حدوتة الشاطر حسن، برواية خيرية أحمد عبدالله، جمع وتدوين: عبدالعزيز رفعت، مجلة الفنون الشعبية، ع 44، يوليو 1994.
- فيلم "رد قلبي"، من إخراج عز الدين ذو الفقار، عن رواية للكاتب يوسف السباعي، وبطولة: شكري سرحان ومريم فخر الدين، إنتاج 1957.
ثانيًا المراجع:
- أحمد زياد محبك: من التراث الشعبي (دراسة تحليلية للحكاية الشعبية)، دار المعرفة، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى، 2005.
- خالد أبو الليل: تصنيف الحكايات الشعبية المصرية"، مجلة الفنون الشعبية، سبتمبر 2013، ع 94، 95.
الحكاية الشعبية: دراسة ميدانية في محافظة الفيوم، رسالة ماجستير، إشراف: أ. د. أحمد مرسي، كلية الآداب، جامعة القاهرة، مصر، 2003.
- فلاديمير بروب: موروفولوجيا القصة وتحولات القصص العجيب، ت: عبدالكريم حسن، سميرة بن عمو، شراع للدراسات والنشر، 1996، دمشق، ص 43.
- محمد عبدالرحمن الجبوري: السينما والفوكلور، مجلة الأقلام، العراق، ع 4، 1988.
- محمود قاسم: الفيلم السياسي في السينما المصرية، وكالة الصحافة العربية، 2018.
- مرسي السيد مرسي الصباغ: البطولة والتمرد في الوجدان الشعبي المصري موال أدهم الشرقاوي أنموذجًا، مجلة الثقافة الشعبية، ع 50، يوليو 2020.
- نبيلة إبراهيم: أشكال التعبير في الأدب الشعبي، دار نهضة مصر، د. ت.
- الخرافة الشعبية وأدب اللامعقول، المجلة، ع 83، نوفمبر 1963.
1- نبيلة إبراهيم: الخرافة الشعبية وأدب اللامعقول، مرجع سابق.
2- فلاديمير بروب: موروفولوجيا القصة وتحولات القصص العجيب، ت: عبدالكريم حسن، سميرة بن عمو، شراع للدراسات والنشر، 1996، دمشق، ص 43.
3- فلاديمير بروب: مرجع سابق، ص 43.
4- حدوتة الشاطر حسن: مصدر سابق.
5- فيلم رد قلبي: الدقيقة 43 و44.
6- فلاديمير بروب: مرجع سابق، ص 45.
7- فلاديمير بروب: مرجع سابق، ص 45.
8- فلاديمير بروب: مرجع سابق، ص 67.
9- حدوتة الشاطر حسن: مصدر سابق.
10- فيلم رد قلبي.
11- فلاديمير بروب: مرجع سابق، ص 68.
12- فلاديمير بروب: مرجع سابق، ص 69.
13- فيلم رد قلبي.
14- أحمد زياد محبك: مرجع سابق، ص 33.
15- الفيلم، بين الدقيقة 28- 30 من الساعة الثانية.
16- حدوتة الشاطر حسن.
17- مرسي السيد مرسي الصباغ: البطولة والتمرد في الوجدان الشعبي المصري، موال أدهم الشرقاوي أنموذجًا، مجلة الثقافة الشعبية، ع 50، يوليو 2020.
18- محمود قاسم: الفيلم السياسي في السينما المصرية، وكالة الصحافة العربية، 2018، ص 60.