مراجعات

محمد أبو النجا

"عن بلاغة العامية": كتاب دانتي الأهم بعد الكوميديا الإلهية

2025.02.22

مصدر الصورة : آخرون

"عن بلاغة العامية": كتاب دانتي الأهم بعد الكوميديا الإلهية

 

تُعد الكوميديا الإلهية أبرز أعمال الشاعر والكاتب دانتي أليجييري (1265-1321)، وواحدة من أهم الملاحم الشعرية العالمية، التي تأخذنا في رحلة خيالية إلى العالم الآخر، في مئة نشيد، موزعين على ثلاثة أجزاء: الجحيم، المطهر، الفردوس. مزج فيها بين الواقع والخيال، الأسطورة والتاريخ، عبَّر عن مختلف الطباع البشرية، استحضر بشرًا وحيوانات وملائكة وأبالسة، أظهر شخصيات شهيرة مثل أرسطو وأفلاطون وابن سينا. وقد أطلق عليها "الكوميديا" لأنها تأتي على عكس التراجيديا، في أنها تبدأ بالحزن وتنتهي بالسعادة، إذ بدأ دانتي (بطل الملحمة) في الجحيم، متبعًا فيه إرشاد الشاعر الروماني فيرجل، قبل أن ينتهي مع حبيبته بياتريتشي في الفردوس، أما وصفها بالإلهية فقد أُضِيفَت بعد موت دانتي.

لم تستمد الكوميديا الإلهية أهميتها فقط من كونها إنجازًا شعريًّا، غنيًّا بتأويلات، ذهب بعضهم إلى اعتبارها تمثيلًا لمسيرة المسيح، فضلًا عن إلهام الأعمال في مختلف أنواع الفنون، ناهيك عن الجدل المثار حول ترجيح تأثرها بمصادر إسلامية مثل "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري، بل أيضًا لدورها في خلق اللغة الرسمية لإيطاليا، فبعد ثلاث مئة عام من وفاة دانتي، صدر قاموس، جمع اللغة المكتوبة بها الكوميديا، التي أصبحت بعد ثلاث مئة عام آخرين اللغة الإيطالية المعروفة في عصرنا، بعد أن أطلق عليها دانتي "اللغة اللامعة"، إذ إنه انتقاها بمعايير وضعها لنفسه، شرح هذا عبر رحلة بحث وتنظير في كتابه "عن بلاغة العامية"، الذي كتبه بين عامي (1302-1305).

غلاف كتاب عن بلاغة العامية

الغريب مع كتابٍ بهذه الأهمية أنه لم يُنقل إلى العربية إلا أخيرًا، عن بيت الحكمة للثقافة، ترجمة وتقديم مينا ناجي، الذي يصفه بأنه التنظير الأدبي الوحيد في العصور الوسطى، وتطور في النقد غير مسبوق. فيه يطرح دانتي طرحًا ثوريًّا في عصره، إذ ينتصر للغة العامية على حساب اللغة اللاتينية، التي كانت لغة الدين والعلم والأدب حينذاك، ينحاز إلى العاميات في أنها منطوقة وتتجدد وتتأقلم، لقد وضع لهذا المشروع خطة في أربعة كتب، أنجز منها اثنين فقط، أعتقد أنهما كافيان لفهم مشروعه، غير المسبوق.

يشرح لنا دانتي خطته في تشكيل عامية جديدة، أطلق عليها اسم "العامية اللامعة"، إذ قسَّم إيطاليا إلى جانب أيمن وأيسر، ثم أخذ يبحث بين البلاد عن عامية ترقى إلى كتابة ملحمته الشعرية، ليكسب رهانه في تفوقها على اللاتينية، اختار المفردات حسب معايير خاصة به، وحتى الاستثناء في اختيار مفردة غير مفضلة فقد استندت إلى منطق خاص أيضًا، فهي إما ضرورية وإما زخرفية في بنية الشعر. أعطى أيضًا للمفردات صفات حية: طفولية بسبب بساطتها، نسائية بسبب ميوعتها، ريفية بسبب خشونتها، حضرية لكونها ناعمة أو غير مشذَّبة، حضرية ممشطة أو شعثاء، على حد تعبيره.

هذا ما حفز مينا ناجي على أن يشتبك في مقدمته مع واقعنا المعاصر، ربط موضوع الكتاب بإشكالية العامية المصرية والفصحى، أضاف أيضًا في أهمية "بلاغة العامية"، أن دانتي وضع قواعد نحوية للشعر العامي الإيطالي، مثلما فعل أرسطو مع الشعر اليوناني في كتابه "فن الشعر"، فضلًا عن تعامل الأول مع اللغة كنظام من العلامات، وجمعه عناصر من مجالات مختلفة، مثل الفكر اللغوي والتاريخ والجغرافيا والفلسفة وتفسير النصوص الدينية والنظرية السياسية، جنبًا إلى جنب مع الممارسة الشعرية.

نسخة من كتاب عن بلاغة العامية نُشر قبل عام 1923

مع كون دانتي نادى في كتابه بالعامية فقد كتبه باللغة اللاتينية، مستثنيًا أمثلة الشعر ليوضح فكرته، لأنه أراد مخاطبة النخبة حينذاك، كذلك ترجم مينا ناجي الكتاب إلى الفصحى، التي اعتبرها المعادل للاتينية، وعلى طريقة الأول فقد انتقى مفردات من العامية المصرية لتعادل أمثلة العامية الإيطالية المعروضة بالكتاب، حسب رؤيته، ليمكن القارئ من استيعاب القضية المطروحة، مع اختلاف ظروف البلدين، التي عرض جانبًا منها.

كان لهذا الهدف جذور مع دانتي، إذ أنجز كتابيه: "الحياة الجديدة" (1293)، و"المأدبة" (1304- 1307)، بعامية توسكانا. دافع في الثاني عن العامية كلغة جديدة، هذا قبل أن يشاركنا تقنيته في "عن بلاغة العامية"، ثم تطبيقها في ملحمته الشهيرة الكوميديا الإلهية، التي نقلها إلى العربية حسن عثمان، في منتصف القرن العشرين، ثم كاظم جهاد، اللذان كتبا مقدمتين، أصفهما بالرائعتين، حتى أنهما يرتقيان إلى كتابين منفصلين، شرحا فيهما ظروف نشأة وتطور شاعرنا العظيم، فضلًا عن وصف الظروف المحيطة والمؤهلة لكتابة الملحمة، مع ذلك فقد أرى أنهما أخطأا في ترجمة الكوميديا إلى الفصحى، أتمنى أن تترجم يومًا ما إلى العامية، رغم تقديري للمجهود المطلوب في تكوين عامية من بيئتنا، تكون معادلة للإنجاز الذي صنعه دانتي أليجييري في تشكيل عاميته اللامعة، إذ أتوقع أنها ستساهم في فهم الكوميديا الإلهية، بشكل أفضل.