رؤى

كارولين كامل

الجنس في مصر وفَشْر المحرومين

2024.07.06

مصدر الصورة : آخرون

الجنس في مصر وفَشْر المحرومين

أتوتر في تلك الليالي التي يعلو فيها عواء القطط، خاصة الإناث منها، في الشوارع وفي العمارة حيث أسكن، مناجاة الشركاء لتلبية نداء الفطرة. الأصوات تشبه النواح، وتنطلق القطة في طلبها ولا تتوقف حتى تنال ما تريد. 

تذكرني تلك الأصوات النائحة بأني خصيت قططي الثلاثة لأني لم أكن أنوي الاحتفاء بذريتهم. ولا أنسى نقاشًا دار بيني وبين صديقة لبنانية ترى في خصاء الحيوانات جريمة لأنها تسلبها حقها الطبيعي في "الانبساط". كانت حجتي أن الجنس في حياة الحيوانات هدفه فقط استمرار النوع. تابعت حجتها أن الحيوانات تجد لذة بالتأكيد في ممارسة الجنس ويظهر ذلك في رد فعلها والأصوات التي تصدر عنها، ضحكت وقلت لها محظوظة الحيوانات ربما، فشريحة كبيرة من المصريين لا يعرفون أن للجنس لذة، وغالبيتهم من النساء.

لا يمكن الخوض في الحديث عن الجنس في مصر كاحتياج طبيعي وممارسة خارج إطار الزواج، لأن الزواج هو القالب الوحيد الذي يسمح به مجتمعنا لأفراده أن يمارسوا من خلاله حقهم الطبيعي.

هناك بالطبع من تحرروا ويعيشون حياتهم بشكل طبيعي بعيدًا عن النمط المجتمعي، استنادًا إلى ظروف كثيرة غير متاحة للشريحة الأكبر من المصريين.

إذًا يبقى الزواج هو الممر الوحيد لممارسة الجنس في مصر، بل ولكثير من الأفعال الحميمية، مثل القبلة والحضن. وطبعًا يعد هذا تضييقًا على حرية المواطنين.

فالمشرِّع المصري حرص على أن يكون القانون حاضرًا لمنع وتجريم أدنى فعل حميمي خارج مظلة الزواج. فلدينا ما يُعرف بـ"الفعل الفاضح في طريق عام"، من دون تحديد هذه الأفعال بوضوح، ولكنها توصف بأنها "فعل مادي يخدش فى المرء حياء العين أو الأذن سواء وقع الفعل على جسم الغير أو أوقعه الجانى على نفسه"، وهذه صيغة فضفاضة يترك توضيحها للقاضي حسبما يرى.

وفقًا لأبحاث فرويد عن مراحل التطور النفسي الجنسي، يتعرف الإنسان على جسده بشكل حميمي ويُدرك المتعة السرية ما بين عمر الثالثة والسادسة. ويستمر الإنسان في التطور، حتى يصل إلى المشاعر الجنسية الناضجة بين الثالثة عشرة والثامنة عشرة. ويميز فرويد هذه المرحلة بأنها مرحلة الغرور بشكل كامل. حيث يسعى الإنسان إلى الاستقلال، وبالتبعية اختبار جسده والتعرف على تلك الرغبة ومحاولة إشباعها.

لن أخوض كثيرًا في كيف يناضل الإنسان المصري من سن الثامنة عشرة وحتى زواجه ليحافظ على سلامته النفسية وسعادته وهو يكبت رغباته الطبيعية. ولكني سأرتب الأشياء حسب حدوثها: نمو الرغبة الجنسية، سنوات طويلة من الكبت، شقاء ومجهود وضغوط، زواج مُكلف وليلة العمر، ثم أقل من خمس سنوات ويقع الطلاق. فمثلًا وصلت حالات الطلاق في مصر في عام 2021 إلى أكثر من 254 ألف حالة وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

هنا يلزم التنويه إلى أن تلك أرقام حالات الطلاق الموثقة. لكن هناك الكثير الكثير من الحالات التي يستمر فيها الزواج بينما الطرفان في حالة انفصال فعلي، لأسباب مختلفة.

ومن اللافت أن أغلب حالات الطلاق وقعت في السنوات الخمس الأولى من الزواج، وكثير منها كان قرارًا قد اتخذه أحد الطرفين في الساعات الأولى بعد "ليلة الدخلة" أو بعدها بأيام قليلة.

 الأمل

 نشرت مجلة مصرية اسمها "كتاب للثقافة العامة" عام 1947 الآتي: "إن نسبة الطلاق قد انخفضت انخفاضًا محسوسًا في السنوات الأخيرة، وذلك لأن الرجال والنساء على السواء بدءوا يدركون أهمية الناحية الجنسية وأثرها على حياة الإنسان، ومن ثم فإنهم أخذوا يقرءون الكثير مما كتب في هذه الناحية".

حياء الأسرة المصرية المعاصرة يخدشه خبر مماثل. وغالبًا ما سنجد من يستغيث بالمسؤولين لمعاقبة صاحب الخبر ربما بأثر رجعي.

نُشر هذا الخبر نقلًا عن الطبيب الأمريكي بول بومان بوبينو، مؤسس ما يُعرف بجلسات "الاستشارة الزوجية"، والتي لاقت رواجًا كبيرًا في الغرب منذ حينها، وأخيرًا أصبحت ذات شأن في عالمنا العربي، وفي مصر بشكل ملحوظ، وتُعرف بجلسات العلاج الزوجي.

هذه المجلة كانت تصدر شهريًّا، وينشرها "مكتب النيل للدعاية والنشر والإعلان" تحت إدارة مديرها محمد هلال.

حصلت على المجلة من "سوق ديانا"، وكذلك على أعداد من مجلة "الجيل" وأعداد من مجلة "صباح الخير" نُشرت بين عام 1948 وعام 1966.

وقد تباينت كيفية تناول كل مطبوعة لمواضيع الجنس والزواج والطلاق. ففي بعضها عشرات الرسومات الحميمية يحتضن فيها الحبيب حبيبته وهي تنظر إليه بشغف. وهناك أيضًا إعلانات عن كل جديد في السينما، التي لم تكن "نظيفة" كما هي السينما حاليًّا.

المضحك المبكي أنه لا يمكن الكلام في مصر عن الجنس حتى بين المتزوجين، بينما في المقابل يثمر الجنس بينهما ما يتجاوز مليوني طفل وفقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الصادرة عام 2024. هل يعني هذا أن المصريين يعيشون حياة جنسية سعيدة، تحصل فيها المرأة على لذتها كما يحصل الرجل، وينعكس هذا على مزاجهما بشكل عام؟

المزاج العكر لموظف ما أو سائق أتوبيس يربطه المصريون في أول تعليق لهم على هيئته بأن ليلته كانت جافة، في إشارة إلى أنه لم يمارس الجنس ونام خائب الأمل. والعكس أيضًا يقال، إذا ما كان الشخص مرحًا بدون مبرر وعلى غير عادته، فيكون التعليق بأنه نال ليلة حمراء، وهو ما يؤكد على إدراك المصريين لأهمية الجنس ولكن في حدود النكتة، من دون الخوض في نقاش جدي بخصوصه.

 طعم القبلة!

 "دعاة العفة التامة، وما هي العفة التامة؟ هي ألا تخرج البنت، وألا يكون لها أصدقاء، ولا تعرف الرقص، ولا تعرف طعم القبلة.. وهي التي لم تسمع من أحد كلمة: أنا أحبك، وهي أيضًا لم تقلها لأحد.. هذه العفة الكاملة، مستحيلة وغير طبيعية، ولا تتحقق إلا في عالم.. بلا ماء ولا تراب ولا هواء ولا نور، إلا في المقابر تحت التراب، إذا توافرت لبناتنا وأبنائنا كل عناصر الحريات العاطفية ففي وسعنا أن نحقق العفاف".

هذا ما يقوله أنيس منصور في مقال بعنوان: "عفاف ولكن بلا حزام" في إحدى أعداد مجلة الجيل في عام 1955. كان هذا العدد من المجلة معنيًّا من الأساس بالزواج والطلاق، وأيضًا بالاحتفاء بالنساء داخل مصر وخارجها، حيث نجد صور الفتيات في الإسكندرية على البلاج بالمايوه، وصفحتين بالكامل عن رقص النساء بما أسموه "القبقاب" (حذاء التزلج). والأجمل أنه يوجد بالمجلة تقرير مصور بعنوان: "بنات بغداد يذهبن إلى الجامعة بالملاية اللف"، حيث نجد جميلات العراق في أروقة الجامعة بالملابس التقليدية.

ومن مجلة الجيل أيضًا، ولكن في أحد أعداد عام 1956، شاركت على حسابي في إنستجرام كاريكاتير للفنان صاروخان يظهر فيه رجل ممدد في الفراش ويحتسي الشاي وتبدو عليه السعادة، بينما تقف سيدة جميلة ترتدي قميص نوم يكشف عن صدرها وتُمسك بمقشة وتكنس الغرفة، وبخط ضخم مكتوب أسفل الرسمة "شهر العسل..".

 سألت الأصدقاء بمَ يفسرون الرسم، وفاجأتني التعليقات التي تسخر من تصورات الرجال عن الزواج.

انفردت النساء بالتعليقات الجنسية: "أنا جاي أتفرج وبس"، علقت صديقة. هل كان هذا ما يقصده الفنان صاروخان وقتها، لا يمكن أن أعرف.

ولكن اليوم في 2024 فإن ما فرضه المجتمع المصري مُدَّعي الفضيلة من قيود على المعرفة الجنسية، خاصة على أغلب النساء اللواتي يعشن في معزل عن تلك المعرفة، قد أصبح شيئًا من الماضي. فقد أتاحت المواد الجنسية المنتشرة على الإنترنت للمرأة بابًا واسعًا للمعرفة، وكشفت عن عالم جنسي مُخيف وأكثر تعقيدًا من حلم ليلة زفاف العرسان بالأرواب الساتان، بينما تعج البيوت بصواني المكرونة بالباشاميل والحمام المحشي والملوخية. فأغلب التصورات المصرية التقليدية عن الليلة الأولى لممارسة الجنس بين العروسين تستند إلى حشو المعدة حد التخمة.

ما يُسمى بالحب العذري الذي سمموا عقولنا بفكرته غير المنطقية، سخر منه الفنان الكبير صلاح جاهين في كاريكاتير بمجلة "صباح الخير" عدد يوليو 1956، بعنوان قيس وليلى: كل منهما يجلس أسفل شجرة ويضحكان وأفلاطون مُقبل عليهما ويقول: "يلعن أبو الحب الأفلاطوني إللي بالشكل ده". الأشجار التي يحفر عليها المحبون أسماءهم خوفًا من خطف قبلة، اليوم تتكفل الحكومة بقطعها غير مكترثة بتاريخ الحب العذري المدون على جذوع الأشجار في مصر.

 فَشر جنسي

 المجتمع الذي يدَّعي الفضيلة، وتتحرك قواته سريعًا لإلقاء القبض على شاب وفتاة يسرقان قبلة فوق الكوبري، بينما لا يستجيب لاستغاثة حقيقية تردع جريمة وتنقذ أرواحًا، يُشير بوضوح إلى الهوس بالجنس. ولا أظن أن تلك مغالاة أو تجنٍّ.

فمنذ زمن بعيد، وفي كتاب "مذكرات طالب بعثة" للكاتب والمفكر الكبير لويس عوض التي كتبها في أربعينيات القرن الماضي إشارة واضحة إلى الهوس المصري بالجنس، حيث يقول:

 "مصر برضه هي مصر.. نورستانيا جنسية بتنخر في عقولنا وبتطفح على الجلد زي الدمامل.. تشوفها في الفَشر الجنسي إللي بتسمعه من أصحابك.. تشوف الكبت في النكات القبيحة إللي بتتكون منها مادة فكاهتنا.. تشوفه في الشارع وفي الترمواي وعلى كوبري قصر النيل وفي الجامعة.. تشوفه في الحقد الهمجي إللي بيحمله كل شاب لأي واحد يشوفه مع بنت.. لما واحد يكلم واحدة تفترسه نظرات الناس ويقولوا له سيب النعجة يا خروف.. مساكين الشبان المصريين.. ماتعرفش نزعل منهم ولا نرثي ليهم"

 يشكو لويس عوض في هذا الزمن البعيد، الزمن الجميل كما نسميه نحن، ونتحسر نحن أن ذوينا عاشوا الحرية التي شاهدناها في الأفلام القديمة، بينما يكشف لنا عوض عكس ذلك. ربما لم نسأل آباءنا الأسئلة الصحيحة بعد، هل كان لديهم رغبات جنسية مكبوتة تشبه التي لدينا أم لا؟

يستكمل عوض كلامه عن الكبت الجنسي من واقع خبرته ويقول:

 "الكبت أنا أشوفه كل ما أكلم تلميذ أو تلميذة من تلامذتي وأتمعن في خدودهم الصفرا وأقرأ فيها الحرمان.. أو أتحسر على ذكائهم إللي طفاه الجوع القديم.. أقدر أشوفه في الكسل الفكري الملازم لأكثر المتعلمين وفي القلق إللي إتملك الناس.. وفي التفكير غير المنظم عند أغلب الشبان.. كمان أشوفه في الملل والكآبة.. إنتوا نايمين ولَّا إيه.. طبقة الأفندية في مصر دي مش طبقة.. دي مجموعة من العقد النفسية إللي مافيش أمل فيها إلا بتوجيه جنسي جديد.. أساسه الحرية المعتدلة والإطلاق إللي مبني على فهم صحيح.."

 الخطة الحياتية التي فرضها المجتمع ليكون الجنس والزواج كل منهما في حاجة إلى الآخر، لم يحُل دون أن ينجح الطلاق الخبيث المستوحش في تمكنه من الأسرة المصرية. هكذا تحدثت المطبوعات التي في حوزتي منذ عام 1948.

وحتى اليوم في عام 2024 لم نعترف بأن الطلاق صار جزءًا من دورة حياتنا ونتيجة لفساد المنظومة، التي تبدأ بالكبت وتنتهي باكتشاف أهمية أشياء أخرى في أي علاقة بين طرفين مقارنة بالسجاجيد وطقم الصيني وعدد المعازيم.

ختامًا الجنس ليس شريرًا مثل فولدمورت الملعون الذي يشاطر هاري بوتر الطيب البطولة، ويُلقب بـ"الذي يجب عدم ذكر اسمه". فهل نتجرأ ونقول: "الجنس"، بصوت عالٍ على سبيل التجريب؟ إذ ربما نفهم القليل عن تفاقم الطلاق والمشاكل الزوجية التي لا تنتهي.