الأقباط والعمل الأهلي

دينا عزت

الأقباط خارج أسوار الكنيسة – الجزء الثاني

2024.08.03

مصدر الصورة : الجزيرة

جمهورية يوليو وما بعدها

يُعد عام 1952 عامًا فاصلًا، حيث تمت الإطاحة بالملك ووصل الضباط الأحرار، الذين لم يكن من بينهم قبطي واحد، إلى الحكم، ليتم إدخال أنماط مستقرة لتحييد وصول الأقباط إلى مناصب عليا، خاصة في الأجهزة الأمنية إلا في أضيق الحدود، وهو ما نال ثانية من مسعى المواطنة المتساوية. 

وفي كتابها "موقف الأقباط من الحركة السياسية المصرية 1952-1970"، الصادر عن الهيئة العامة للكتاب في عام 2021، تقول الدكتورة هبة شوقي أن الإجماع يكاد ينعقد بين المؤرخين المطلعين علي تفاصيل الأيام الاولي لحركة الضباط الاحرار "ان ضابطًا قبطيًا واحدًا يدعي واصف لطفي حنين هو من شارك في ثورة 23 يوليو." 

وتضيف أن محمد نجيب، أول رؤساء جمهورية يوليو الأولي، استشعر القلق القبطي بسبب غياب الاقباط بين الضباط عن واجهة مشهد ثورة يوليو فأتخذ بعض الخطوات التطمينينة بما في ذلك قيام أعضاء من مجلس قيادة الثورة بزيارة لمقار الأسقفية بالمحافظات وإصدار قرار في سبتمبر 1952 ببث القداس الأسبوعي للأقباط من محطة الإذاعة وإصدار قرار بتدريس مادة الدين المسيحي للضباط الأقباط بالكلية الحربية. 

وتقول هبة شوقي إن الدعم الذي حصلت عليه "ثورة يوليو" والشرعية التي مكنتها من تحقيق تغييرات جذرية سياسية واقتصادية، بما في ذلك دعم تأميم قناة السويس، كانت من جموع المصريين بدون تفريق بين مسلمين ومسحيين، وكذلك كان الحال بالنسبة لشعبية جمال عبد الناصر الذي تشارك المسلمون والمسيحيون توديعه بقلب مكلوم ودموع فياضة في سبتمبر من عام 1970. 

وتوضح أن معارضي قرارات يوليو الاشتراكية مثل التأميمات الواسعة لم تكن لها صفة قبطية بل كانت ترتبط بموقف كبار ملاك الأراضي والاثرياء، وفي هذا لا خلاف بين المسيحيين والمسلمين، عدا ما اتجهت اليه اعداد غير قليلة من المسيحيين إلي الهجرة، ليكونوا نواة مع عرف بعد ذلك بأقباط المهجر.

غير أن سباستيان أليساسار الباحث في الشأن القبطي المصري يرى أن الأمر أكثر تعقيدًا من مسألة المواطنة، لأن هناك شقًّا كما يقول يتعلق بالتنوع القائم في المجتمع، والذي يعبر عن نفسه في مصر كما في مجتمعات عديدة بصور مختلفة يدور كثير منها في الحالة المصرية القبطية في فلك الكنيسة في أحيان بحكم العادة أكثر مما هو بحكم التمييز. ويقول على سبيل المثال إن فكرة إطلاق نادي لكرة القدم تابعًا للكنيسة لا يجب أن ينظر إليه فقط في سياق مسألة التمييز في ضم الأقباط وغيرهم من المسيحيين إلى نوادي كرة القدم القائمة، لكن يجب أن ينظر إليه أيضًا من منطلق أن الكنائس من الأساس بها مساحة للرياضة وكثير من الصبية الأقباط يلعبون كرة القدم داخل كنائسهم. 

وفي المجمل يختلف سباستيان أليساسار مع تقييمات لا تأخذ في الاعتبار ما يقوله الأقباط أنفسهم من أنهم يشعرون بأكبر قدر من الرضا عن علاقتهم بالحكم اليوم وعن علاقة الكنيسة به الآن أكثر من أي وقت سابق وهذا ما يقوله الكهنة وما يقوله المواطنون على حد سواء. ويضيف بأن الحديث عمَّا يتعرض له الأقباط من تمييز يختلف كثيرًا بحسب السياقات الاقتصادية والاجتماعية لهؤلاء الأقباط.

أما فايزة، السيدة القبطية الأربعينية التي تعمل في إحدى شركات النظافة وتعيش في عزبة النخل، أحد أحياء القاهرة الشعبية، فتقول إن خروج الأقباط للحديث عن مظالمهم يستدعي للأسف ذكرى أحداث ماسبيرو عندما خرجت مظاهرة قبطية سلمية، شارك فيها جيران لها، في 9 أكتوبر 2011، بدأت من شبرا بشمال القاهرة إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون الواقع على كورنيش النيل في شارع ماسبيرو "الذي يحمل اسم عالم المصريات الفرنسي جاستون ماسبيرو، للاعتراض على تعرض كنائس الأقباط لاعتداءات من جهات غير محددة الهوية أسمتها الدولة في حينه بـ"الطرف الثالث". وتتذكر فايزة ما حدث في ذلك اليوم من مواجهات بين المتظاهرين وبين قوات إنفاذ القانون المكلفة في حينه ما أدى إلى إصابة أكثر من 300 شخص ومقتل أكثر من 20 شخصًا كان من بينهم مينا دانيال الشاب المسيحي الذي يعد أحد أيقونات ثورة يناير 2011 التي مثلت لحظة نادرة لخروج المسيحيين عن أسوار الكنيسة والتحام المسيحيين والمسلمين من المصريين في مطالب وطنية واضحة وموحدة بالعيش والحرية والكرامة الإنسانية.

في المجمل، كما يقول سباستيان أليساسار، وبغض النظر عمَّا يتردد هنا أو هناك من تكهنات قد يكون لها أصل أو قد لا يكون فإن التقييم المحايد لا يمكن إلا أن يخلص إلى أن الأقباط راضون ليس فقط عن ما حدث في بناء الكنائس على رمزية ذلك ولكن أيضًا في مواجهة الإسلاميين الذين كان ظهورهم الكبير على سطح الحياة السياسية مبعث مخافة لدى القطاع الأعرض من الأقباط.

أعياد ومناسبات

في منتصف أغسطس يحتفل المسيحيون الأقباط، في قلب الصعيد بمصر، بنهاية صوم العذراء مريم الذي يتم في أجواء من البهجة والأمل. ويرسم كتاب "كنت طفلًا قبطيًّا في المنيا" صورة اجتماعية -بها جانب ديني محدود أو حتي بعيد- لذهاب أسرته للإقامة في أحد أديرة الصعيد الذي مرت بها العائلة المقدسة لأيام ترتبط بأكل الحلوى وشراء لعب الأطفال والمشاركة في لعبات جماعية ليبدو له مولد العذراء كما لو كان رحلة صيف.

ويعرف من ذهب إلى مولد العذراء بمحطاته المختلفة التي تشمل سمالوط بالمنيا ودرنكة بأسيوط أن الاحتفالية لا تخلو أبدًا من وجود المسلمين، خاصة السيدات الشابات اللاتي يتجمعن دومًا حول صندوق النذور ليطالبوا العذراء، التي هي الرمز الأكبر للأمومة في المجتمع المصري عمومًا، بشفاعة تحقيق حلم الأمومة، حيث تقف المسيحيات والمسلمات جنبًا إلى جنب حتى تتعالى همسات: شلاه يا عدرا.

وتقول كارولين كامل إن هناك مساحات غير قليلة، رغم كل مظاهر التباين الطائفي الحالية بالمجتمع المصري فإن هناك مساحات لا يمكن إغفال المشاركة فيها بين كل المصريين حيث تتحول الأعياد الدينية إلى مناسبات اجتماعية، ومنها عيد الغطاس، حيث يطبخ الجميع الطبخة التقليدية للمناسبة، القلقاس بالسلق الأخضر والتي تحمل رمزية دينية متصورة تربط القلقاس كونه جذرًا داخله أبيض وقشرته الخارجية قاسية يتم نزعها وطهيه بالسلق ليكتسب صفة جديدة، بالضبط كما يمنح التعميد المسيحية.

ورغم أن عيد الغطاس الذي يرتبط بمعمودية المسيح في نهر الأردن لا يقع داخل المظلة العقائدية الإسلامية، مثل الميلاد أو حتي مولد العذراء التي لها وضعية خاصة لدى المسلمين بوصفها أطهر نساء العالمين بحسب الوصف القرآني، إلا أنه يبقي مشمولًا بالقبول المجتمعي الواسع عدا السياقات شديدة التزمت بين المسلمين.

وترى كارولين كامل أن الأمر في جانب منه يرتبط بالطعام، حيث يحرص المصريون في ذلك اليوم، بعيدًا عن أي انتماء ديني على طهي الوصفة التقليدية للقلقاس وهو من هذا المنظور يتشابه مع شم النسيم -احتفال الربيع في مصر الذي يأتي يوم الاثنين التالي على أحد القيامة- حيث يتشارك الجميع في أكل الأسماك المملحة من فسيخ ورنجة. 

وتضيف بأن موائد المناسبات وحلوى الأعياد لديها قدرة على ربط الجميع بشكل تلقائي، فالكل يتناول القلقاس لغداء يوم الغطاس والقصب كذلك والكل يتناول القطائف المحلاة في أيام رمضان والكل يتناول حلوى المولد مع الاحتفال بمولد الرسول محمد عليه الصلاة والسلام.

"في الواقع، في كثير من الأحيان، يتناول المسيحيون وجبتهم الرئيسية في رمضان حول وقت إفطار المسلمين مع حلول المغرب لأن ذلك يرتبط بمشاهدة برامج التلفزيون الرمضانية التي يتم إعدادها حول موعد الإفطار، ويعقب ذلك تناول الكنافة والقطايف أثناء مشاهدة التلفزيون والدراما الرمضانية"، تقول كارولين كامل. وتضيف: "في كثير من الأحيان تتحول المناسبات الدينية إلى روتين اجتماعي وترفيهي أو فلكلور بمعني ما".

ويتفق مينا عادل جيد، صاحب كتاب "كنت طفلًا قبطيًّا في المنيا" مع هذا التقييم، ويقول إنه في طفولته كان يشارك الأصدقاء "مسلمين ومسيحيين، عادي"، في وضع زينة رمضان من دون أن يشعر المسيحي بغضاضة ومن دون أن يشعر المسلم بحرج. "بالعكس عادي جدًّا، وكنا نستنى مدفع الإفطار ونجيب مدافع صغيرة علشان نضرب بيها إحنا كمان ونفطر عادي، وعمر ما حد كبير قال لنا كده غلط أو ماتعملوش كده". ويقول "بالنسبة لطفل رمضان شهر فيه بهجة وزينة وهو أمر مستمر لأيام كثيرة، وكنت أشعر أننا كمسيحيين ليست لدينا مناسبة موازية من حيث الاحتفالات المستمرة لمدة شهر".

ومع ذلك لا تنفي كارولين كامل كونها مسيحية نشأت في الدلتا وقدمت إلى العاصمة القاهرة في العشرينيات من عمرها لتبدأ رحلة العمل والحياة، إنها في كل مراحل حياتها تمر بها لحظات تشعر فيها وبكل بساطة أنها "الآخر". وتقول: "لم يكن الحال كذلك مع جيل الأهل أو من سبقهم حيث كان الجميع مصريون، لكن جيلنا نشأ في ظل منظومة مختلفة فيها مصري مسلم ومصري مسيحي وبوصف أن المسلمين هم الأكثرية اصبح المسيحي هو الآخر".

ويقول مينا عادل جيد إنه لم يشعر بالتضاد بين من هو مسيحي ومن هو مسلم حتي خرج عن إطار مدارس الرهبان أثناء التحاقه بالمدرسة الثانوية ثم بعد ذلك أثناء دراسته الجامعية في المنيا في مطلع الألفينات حيث كانت هناك نشاطات وتجمعات للمسلمين تختلف عن المسيحيين.

وترجع كارولين كامل التي دونت هذه التجربة في روايتها "فيكتوريا" التي حققت مبيعات كبيرة، هذا التطور إلى اختيار المجتمع أن يتخلى عن علمانية كانت بازغة وصاعدة في النصف الأول من القرن العشرين ليحل محلها سياق الانتماء الديني. ولكنها تردف أن "الآخر ليس دومًا المسيحي"، فربما يكون الآخر، كما تشرح، صاحب البشرة الأكثر سمارًا أو حتي المسيحي الإنجيلي أو الكاثوليكي في وسط السيطرة الأرثوذكسية القبطية أو "كما هو الحال في أحيان كثيرة، الأفقر".

الحتمية الطبقية والجيلية

يقول ماجد، الشاب المسيحي الثلاثيني، مهندس ويعيش في حي مصر الجديدة حيث الطبقة المتوسطة والتواجد المسيحي التقليدي، إن مطالبة الأقباط بالحديث عمَّا يرونه من أشكال مظالم لم يتم التعامل معها هو أمر غير واقعي وغير عملي وأن ما يتم من "قرارات في صالح الأقباط" يجري في إطار العلاقة المباشرة والجيدة بين الكنيسة والدولة والتي كان من بينها حرص رئيس الجمهورية على زيارة الأقباط أثناء قداس الميلاد للتهنئة بالعيد في تقليد سنوي بدأ في يناير 2015 بعد ستة أشهر من وصول عبد الفتاح السيسي إلى سدة الحكم. ويضيف ماجد بأن ما حصل عليه الأقباط في عهد السيسي هو "بالتأكيد غير مسبوق فيما يخص مسألة الكنائس وأيضًا مسألة الاعتبار العام" لان حسني مبارك وإن كان قد أقر في العقد الأخير من حكمه اعتبار السابع من يناير إجازة وطنية في أول تمرير لعيد مسيحي عطلة رسمية فإن السيسي هو من يقوم بزيارة الكاتدرائية كل عام. ولا يجد ماجد حرجًا في أن يقول إن ذلك يأتي في إطار دعم مسيحي سياسي كبير للحكم، ويقول: "أمر طبيعي لأن الناس تدعم من يدعمها".

لكن ماجد يردف بأنه لا بد من إدراك الفرق ما بين المسيحي الذي يعيش في وسط مصر الجديدة أو المعادي أو الزمالك والمسيحي الذي يعيش في عزبة النخل أو إمبابة أو بولاق الدكرور، "لأن المسيحي الذي يعيش في أحياء الطبقة المتوسطة العليا أو في الكومبوندات حيث يعيش الميسورين، لا يتعرض لما يتعرض له المسيحي الذي يعيش في الأحياء الأفقر"، لأن ببساطة المسلمون الذين يعيشون في أحياء المواطنين الأكثر حظًّا من حيث التعليم والوفرة المالية لا يشعرون بالضرورة بالانزعاج مثلًا من بناء الكنائس أو من أصوات أجراس الكنائس "وهو الأمر الإشكالي في أحيان غير قليلة بالنسبة للأحياء الأفقر وبالتاكيد للقرى".

ويقول ماجد إنه كثيرًا ما استمع إلى أقارب له يعيشون في سوهاج، في صعيد مصر، عن اضطرار بعض الكنائس الصغيرة لرفع الصليب عن واجهة كنيسة هنا أو هناك في إحدى القرى ببساطة لأن السكان المسلمين في هذه القرية أو تلك استاءوا من وجود الصليب. ويضيف: "بالتأكيد إن أكبر حوادث التعدي على الكنائس وعلي الأقباط تقع في الأحياء الأفقر أو في القرى التي تفتقر للتعليم والفرص، الفقر والجهل بيزودوا الطائفية، ده أكيد".

ورغم أن كارولين كامل تقر بان حياة المسيحيين في الأحياء الأكثر حظًّا من حيث حصول ساكنيها على التعليم وتمتعهم بالوفرة الاقتصادية هي أسهل في جوانب ما، إلا أنها تقول: "من المهم كمان ننظر للموضوع من زاوية أوسع، بمعنى أن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد لم تجعل هناك مسلم أو مسيحي في التعامل معها، لأن الجميع يتعرض لنفس الأزمة والجميع يجد صعوبة في توفير متطلبات أساسية للحياة من حيث الغذاء والأدوية أو حتى إيجاد فرص العمل".

في الوقت نفسه، تقول كارولين كامل إن "بالتأكيد رغبة التباهي ببناء الجوامع والكنائس والتي كثيرًا ما تتسبب في حساسيات في مناطق ريفية على وجه الخصوص ليست بالرغبة المتأصلة في أحياء الميسورين لأن المظاهر الشكلية في أحياء الميسورين لها شكل آخر".

من جانبه يقول مينا عادل جيد، إنه إلى جانب التباين الطبقي فهناك أيضًا مظاهر متزايدة للتباين الجيلي، "حيث إن هناك أجيال أحدث لا تقع بالكلية تحت جناح الكنيسة مثل الأجيال الأكبر التي تعتمد على ما يصدر عن الكاهن أو عن البابا بشكل تفصيلي في كل ما يخص الحياة اليومية وليس فيما يخص الحياة الروحية فقط".

ويقول مينا عادل جيد إن الكنائس والكهنة يجدون سهولة أكبر بكثير على سبيل المثال في الدفع بأبناء الكنيسة إلى التصويت السياسي بحسب التعليمات عن أبناء الأجيال الأصغر التي تصوت بحسب رغبتها. 

وتقول ماريان، الثلاثينية التي تعمل في إحدى المصالح الحكومية، وتعيش في حي الزيتون شرق القاهرة، إنها في عام 2012، حيث كانت أول انتخابات مدنية تنافسية في مصر، لم تستمع إلى "التعليمات من الكنيسة بالتصويت لأحمد شفيق" آخر رؤساء وزراء حسني مبارك الذي قامت ضد حكمه ثورة يناير. وتضيف: "بالنسبة لي أحمد شفيق ما كانش مطروح إطلاقًا، كنت بأفاضل بين حمدين صباحي وعبد المنعم أبو الفتوح... ليه، لأن الطرح بتاعهم كان مناسب لأفكاري".

لم تلتفت ماريان كثيرًا للخلفية الإسلامية لأبو الفتوح الذي بدأ حياته السياسية مع الجماعة الإسلامية المتشددة في سبعينيات القرن الماضي قبل أن يذهب إلى جماعة الإخوان المسلمين ثم ينشق عنها مع الرفض المبدئي لقيادات الجماعة المشاركة في ثورة يناير، "ماقدرش أقول إن ما فكرتش في الموضوع، طبعًا فكرت، لكن وقت يناير كان إحساس تاني خالص وكلنا كنا حاسين إن قصة المسلم والمسيحي دي هتخرج من التفكير خالص".

في النهاية اختارت ماريان أن تصوت لحمدين صباحي "يمكن بسبب إن أبو الفتوح إسلامي وكان إخوان وكده، لكن مش بس ده السبب، أنا كان عاجبني كلام حمدين أكتر". وتقول ماريان إنها شعرت بقلق مع وصول محمد مرسي وأحمد شفيق للجولة الثانية، بعد أن كان التوقع أن تكون تلك الجولة بين أبو الفتوح وعمرو موسي "ووقتها كنت في الأغلب هاصوت لأبو الفتوح الصراحة".

اختارت ماريان المقاطعة رغم "الكنيسة كانت بتدفع جامد جدًّا في اتجاه التكتل للتصويت لأحمد شفيق". وتقول إنها شعرت بقدر من "القلق" مع وصول محمد مرسي للحكم، وشعرت بقلق أكبر بكثير مع تعرض الكاتدرائية لهجمة "غير مفهومة"، لكنها في الوقت نفسه لم تتماهى مع أحاديث والديها الذين كانوا يرون ويقولون إن على الجيش التدخل لإنهاء حكم الإخوان والزج بهم في السجون. "يعني ما كنتش شايفة إن ده حل، الحل في الديمقراطية وفي المواطنة، وده هيفضل الأمل".

من يناير إلى يونيو - وما بعدهما

لم تشارك ماريان في تظاهرات 30 يونيو التي كانت تدعو الجيش إلى التدخل لإنهاء حكم محمد مرسي. كانت تتمنى أن يستجيب محمد مرسي لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة. لم تشعر بالأسى مع إقالته، لكنها "اتفزعت" مما سمعته عمَّا دار في فض اعتصام رابعة ولم تملك إلا أن تقارن بين فض الاعتصام هذا وما تعرض له المتظاهرون الأقباط في ماسبيرو في أكتوبر 2011.

تدرك ماريان أن مأساة ماسبيرو لم تكن محل تعاطف من معظم التيارات الإسلامية، لكنها ترى أن الأمر يتعلق بالدولة التي كانت "بصراحة بتحرض علنًا علينا من التلفزيون"، وفي كل الأحوال، تقول إنها لا تقرر مشاعرها بناء على مواقف الآخرين ولكن بناء على ما تعتقد أنه صواب، "يعني فكرت إن فض الاعتصام بالشكل ده وبدعم مجتمعي مسيحي لن يكون في صالح علاقة صحية بين المسلمين والمسيحيين على المدى الطويل".

وتقول إنها "مدركة تمامًا أن 30 يونيو كان بدعم المسلمين قبل المسيحيين" وأنها لا تماري في حق المسيحي في التعبير عن رأيه أيًّا كان، وأنها لا ولم تنتظر من المسيحيين الذين انتابهم الهلع من وصول الإخوان إلى الحكم ألا يعبروا عن موقفهم. "لكن كمان مش مفروض إن الناس تفكر في المسيحيين إنهم كلهم كانوا مع 30 يونيو ولا إنهم كانوا مع 30 يونيو علشان إزاحة الإخوان لأن الوقت السابق على 30 يونيو كان في أزمات متعددة من أمن ووفرة بنزين وانقطاع كهرباء وغيره، وكلها مسائل حياتية وليست دينية".

ويتفق مينا عادل جيد تمامًا مع هذا الأمر ويقول: "في الأصل الأقباط مصريين زي المسلمين تتباين توجهاتهم السياسية والكروية، عادي جدًّا". ويضيف: "افتراض إن الأقباط جماعة مصمتة أو منغلقة على نفسها افتراض خاطئ تمامًا، ربما يكون منبعه تغييب طويل للتمثيل القبطي في الدراما والسينما إلا من خلال كليشيهات محددة مثل القبطي الأمين أو القبطي البخيل أو ما إلى ذلك، وأيضًا تغيب النقاش حول القضايا التي تخص الأقباط، وهي ليست بالضرورة قضايا دينية وإنما أيضًا قضايا قانونية مثل الأحوال الشخصية في الإعلام".

وبحسب كتاب نادر عدلي الصادر عن الهيئة العامة للكتاب سنة 2023 فإن الإمعان في تغييب الأقباط في الدراما والسينما والتعامل معهم في أغلب الأحيان كونهم شخصيات هامشية، كان له أثر في انتشار الإنتاج السينمائي أو إنتاج الفيديو في الثمانينيات والتسعينيات لأفلام "قبطية حصرًا" تركز على تصوير حياة القديسين والكهنة أصحاب البركة. وفي مقدمة كتاب نادر عدلي، يقول نبيل عبدالفتاح الباحث والكاتب المتخصص في الشأن السياسي والاجتماعي، إن هذه السينما الموازية أسهمت في خلق مناخ ثقافي مستقل للأقباط.

ويضيف مينا عادل جيد، أن هناك اتجاهًا "ربما عن غير وعي" لإسقاط فصل ما بين الأقباط وباقي المصريين، "فمثلًا أنا لا أفكر في نفسي ككاتب قبطي بل كاتب مصري يتناول تجاربه الإنسانية وما يمس أفكاره وروحه من موضوعات في روايته، وبحكم أنني مسيحي يظهر في أعمالي بعض من جوانب حياة المسيحيين في مصر، بالضبط كما يظهر في حياة الكاتب الذي عاش في الريف أو في الصعيد جوانب من حياة أهل الريف أو الصعيد"، بحسب ما يقول مينا عادل جيد.

وبحسب ماريان، فإن التحول عن الاهتمام بالسياسة الذي حل بها بعد أقل من عام على 30 يونيو، لم يكن أمرًا قبطيًّا محضًا، رغم تشجيع الكنيسة على ذلك بالتأكيد، "لأن الكنيسة تريد لشعب الكنيسة أن يعود إلى رعايتها فقط"، لكنه أمر عام، "واضح جدًّا إن ماحدش أصبح مهتم بالسياسة عمومًا والدليل لو أي حد مسلم ولَّا مسيحي اتسأل عن أسماء حتى الوزرا مش هيعرف، الناس حطت السياسة وراها وقررت تشوف حياتها".

وتقر مي مجيب، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، بما تطرحه ماريان من تراجع عام للاهتمام بالشأن السياسي، وتقول إن الأمر ليس قاصرًا على الأقباط بحال، حتى وإن بدا كذلك للبعض. وكانت مجيب قد كتبت في بدايات عام 2012 في أعقاب ثورة يناير عن أثر الثورة في إخراج المسيحيين من التواجد داخل أسوار الكنيسة إلى خارج أسوار الكنيسة لينخرطوا مجتمعيًّا وسياسيًّا في تقرير مستقبل الوطن.

وتقول: "المقارنة ترتبط بمحددات الفترتين، فإذا كنا نتحدث عن عامي 2011 و2012 فنحن نتحدث عن ثورة كبيرة غيرت شكل النظام السياسي وأسقطت رأس النظام وحققت إقبال على النشاط السياسي بشكل عام". وتضيف: "الثورات تفتح الباب أمام التوقعات العالية ولكن بعد مرور أكثر من عشرة سنوات واستقرار الأوضاع فإن التوقعات لم تعُد بنفس القدر وكذلك المشاركة".

وبحسب مي مجيب فإن ثلاث انتخابات رئاسية مرت بها البلاد منذ 2014 وانتخابات تشريعية عقدت في 2015 و2020 واستقرار مؤسسي بعد فترة من الاضطرابات، كلها أمور معبرة عن الاستقرار. في الوقت نفسه، فإن الدولة التي مرت خلال السنوات الفاصلة ما بين ثورة يناير 2011 واستقرار نظام الحكم السياسي في يوليو 2013، مرت بدورها بمراحل متعددة من التعامل مع الأقباط عبر صياغات وكيانات مختلفة وأصبحت هي أيضًا في مسعى الاستقرار تفضل التعامل مع الكنيسة للتحدث باسم الأقباط. إلي جانب ذلك، تقول مي مجيب، أن الكنيسة رحبت بهذا الاتجاه، وأيضًا باتجاه الأقباط للعودة إلي أسوار الكنيسة خاصة بعد تعرضهم لأحداث طائفية منذ 2011 وما تلا ذلك.

"ومع كل هذه التفاصيل هناك أمر هام يتعلق بالتغيير الذي حدث في رأس الكنيسة مع وفاة البابا شنودة الذي كان بطبيعته يميل إلى الانشغال بالسياسة إلى البابا تواضروس الذي لا يميل إلى الانشغال بالسياسة"، كما تقول مي مجيب. وتضيف بأنه بالطبع هناك مساحات داخل الكنيسة نفسها ترى أن الابتعاد عن السياسة والاكتفاء بعلاقة رأس الكنيسة بالدولة ليس قرارًا صائبًا ولكن في النهاية أن يكون رأس الكنيسة يميل إلى العزوف عن السياسة فهذا محدد هام لخيارات الأقباط بشكل عام.

ولا تلتفت مي مجيب كثيرًا إلى محدودية عدد الأقباط بشكل مستمر، بل وأيضًا متزايد، في التمثيل الحكومي، وتقول إن هناك أيضًا في الحكومة التي تم الإعلان عنها أخيرًا محدودية في عدد النساء والأقباط، "فالأمر لا يتعلق بالأقباط على وجه التخصيص"، وتضيف "الأمر يتعلق بطبيعة المرحلة"، حيث استقر وضوح موقف الدولة من الأقباط.

وتلفت مي مجيب إلى أن الأمر لا يقتصر على أعضاء الحكومة وأعضاء مجلس المحافظين ولكن أيضًا أعضاء البرلمان المنتخب في 2020٠ مقارنة بالبرلمان المنتخب في 2015. "في 2015 كان هناك 39 عضو للبرلمان غالبيتهم العظمي تم انتخابهم من خلال النظام الفردي وعدد كبير جدًّا منهم تم انتخابهم في دوائر تتسم بغلبة سكانية مسلمة، وبالفعل كانت هذه لحظة أراد فيها المجتمع دعم المواطنة والمشاركة للأقباط".

وتقول مي مجيب إن الدولة منذ عهد حسني مبارك كانت حريصة على أن يكون هناك تمثيل للأقباط في البرلمان، وهو ما كان يجعل مبارك يقوم بتعيين عدد من الأقباط في النسبة المقررة لرئيس الدولة لتعيينها بغرض تعويض قلة التمثيل القبطي، وكذلك الحال بالنسبة إلى النساء. وتلفت إلى أن دستور 2014 أشار إلى التأكيد على التمثيل الملائم للأقباط من دون تحديد كوتة معينة لأن الأصل في الأمر أن تكون هناك مشاركة واعية سواء من خلال الترشح أو من خلال الانتخاب.