نصوص ووثائق
آفي شلايمالحرب الإسرائيلية على غزة - الجزء الثالث
2024.10.19
ترجمة: شريف إمام
الحرب الإسرائيلية على غزة – الجزء الثالث
أدى هجوم حماس إلى تدمير سياسة نتنياهو بالكامل، ومن المرجح أن يدفع الثمن السياسي لفشله الاستخباراتي والأمني، فقبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كانت هناك احتجاجات حاشدة في إسرائيل ضد خطته لإصلاح القضاء، ولم تتوقف الاحتجاجات تمامًا في أعقاب هجوم حماس، ولكن الوضع في غزة أصبح القضية المهيمنة. لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى بدأت عائلات الرهائن في تنظيم وقفة احتجاجية خارج مقر إقامة رئيس الوزراء في القدس، وبعد أن تهدأ الأمور، سوف يتجه كل الغضب نحو نتنياهو. وفي مواجهة الدعوات الدولية المتزايدة لوقف إطلاق النار الفوري، يظل نتنياهو متحديًا، فهو يعلم أنه بمجرد انتهاء الحرب ضد حماس، فإن أيامه في منصبه سوف تكون معدودة، فمن الناحية السياسية، يبدو نتنياهو وكأنه رجل ميت يمشي على قدميه. إن ما هو واضح أن سياسة نتنياهو الجديدة في القضاء على حماس ليس لديها أي فرصة للنجاح، فحماس لديها جناح عسكري، وهو كتائب عز الدين القسام لو قُتل جميع قادتها، فسوف يتم استبدالهم بسرعة بمجندين جددًا وأكثر تشددًا. كما أن حماس حزب سياسي أيضًا له مؤسسات وهيئات اجتماعية لها فروع عديدة، مثل جمعية نسائية وجمعية طلابية، وهي جزء من نسيج المجتمع الفلسطيني. والأكثر من ذلك: أن حماس عبارة عن مجموعة من الأفكار، بما في ذلك فكرة الحرية وتقرير المصير للشعب الفلسطيني، والقوة العسكرية قادرة على إضعاف منظمة، ولكنها لا تستطيع قتل فكرة.
لقد أعلن نتنياهو -بغطرسته المعتادة- عن عزمه تدمير حماس، ليس فقط لضمان أمن بلاده، بل وأيضًا لتحرير شعب غزة من طغيانها. لكن الاستخدام العشوائي للقوة من جانب إسرائيل لا يضعف حماس، بل إنه يعزز قوتها. فمن خلال الاعتماد على القوة العسكرية الغاشمة وحدها، تعمل إسرائيل على إضعاف أولئك القادة الفلسطينيين الذين يدافعون عن مبدأ المفاوضات، ويعتقدون أن الفلسطينيين لا يحتاجون إلا إلى العمل بشكل جيد حتى يستمع العالم إليهم. فحماس ليست داعش، كما يزعم نتنياهو وعدد متزايد من وزرائه، فداعش منظمة جهادية ذات أجندة عالمية عدمية. أما حماس، فعلى النقيض من ذلك، فهي منظمة إقليمية تتبنى أجندة سياسية محدودة ومشروعة. في الثاني من يونيو/حزيران 1948، كتب السير جون تروتبيك، وهو مسؤول كبير في وزارة الخارجية البريطانية، مذكرة إلى وزير الخارجية إرنست بيفين، اشتكي فيها من أن الأميركيين، بدعمهم لإنشاء إسرائيل، ساعدوا في خلق "دولة عصابات يقودها مجموعة من القادة عديمي الضمير تمامًا". إن ما إذا كانت إسرائيل تتصرف كدولة عصابات أمر مفتوح للنقاش، ولكن نتنياهو بلا شك زعيم عديم الضمير تمامًا. فبينما كان يواجه هجوم إسرائيل على غزة في عام 2023، كان نتنياهو أيضًا قيد المحاكمة بتهمة ثلاث قضايا فساد خطيرة، وكان يعلم أنه إذا أدين، فقد ينتهي به الأمر في السجن، لذا ساعدت ضرورة البقاء السياسي الشخصي في تشكيل سلوكه في الحرب. ومع ذلك، فإن دوافع نتنياهو لإطالة أمد الحرب في غزة كانت أعمق من الحفاظ على الذات، كانت حلم حياته هزيمة الحركة الوطنية الفلسطينية، ومنع ظهور دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل. لقد نشأ في منزل يهودي شديد القومية، كان والده، بنزيون نتنياهو، السكرتير السياسي لزئيف جابوتنسكي، الأب الروحي لليمين الإسرائيلي والمهندس الرئيسي لإستراتيجية "الجدار الحديدي". في عام 1923، نشر جابوتنسكي مقالًا بعنوان: "حول الجدار الحديدي (نحن والعرب)". في هذه الإستراتيجية، زعم أن الهدف الصهيوني المتمثل في إقامة دولة يهودية مستقلة في فلسطين، لا يمكن تحقيقه إلا من جانب واحد، وبالقوة العسكرية، فلا يمكن إنشاء دولة يهودية عبر المفاوضات مع عرب فلسطين، ولكن خلف جدار حديدي من القوة العسكرية اليهودية، وكان جوهر الإستراتيجيته هو إذا كان هناك مفاوضات فيجب أن تكون من منطلق القوة، وبعد أن يتخلى العرب عن الأمل في هزيمة اليهود في ساحة المعركة، هنا يأتي وقت المرحلة الثانية، للتفاوض معهم حول وضعهم وحقوقهم في فلسطين. ولقد انتقل رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية من الإستراتيجية بتوقيع اتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1993، رغم أنه لم يعترف قط بأي حقوق وطنية فلسطينية.
لقد تولى نتنياهو السلطة في عام 1996، في أعقاب اغتيال رابين، بمهمة صريحة تتمثل في تقويض اتفاقيات أوسلو ومنع إقامة دولة فلسطينية. كان مهووسًا بالجزء الأول من إستراتيجية الجدار الحديدي، وحشد مزيد ومزيد من القوة العسكرية، مع تجنب المرحلة الثانية، أي المفاوضات من أي نوع. وحتى السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كانت إستراتيجيته تتلخص في دق إسفين قوي بين غزة والضفة الغربية والسماح لحماس الضعيفة بحكم غزة. وبعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كان عازمًا على تدمير حماس، ولكن من دون السماح للسلطة الفلسطينية بتوسيع سلطتها إلى غزة لأن هذا من شأنه أن يعزز من فكرة حل الدولتين. كانت تلك بمثابة نسخة بدائية من إستراتيجية جابوتنسكي، التي تستخدم القوة العسكرية اليهودية ليس لحل الصراع، ولكن لإبقاء الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة في حالة دائمة من التبعية لدولة يهودية متفوقة. ويتلخص هدف نتنياهو المعلن في ضمان الأمن لإسرائيل في الأمد البعيد، أما هدفه غير المعلن فهو إنهاء احتمالات الاستقلال الفلسطيني إلى الأبد. إن أحد الجوانب المزعجة في الرد الإسرائيلي على الهجوم المروع الذي شنته حماس هو نزع الصفة الإنسانية عن الشعب الفلسطيني، وهذا ليس بالأمر الجديد. ففي إحدى المناسبات، ادعى نتنياهو أن الحاج أمين الحسيني، زعيم الحركة الوطنية الفلسطينية، هو الذي اقترح على هتلر أن يبيد اليهود بدلًا من طردهم من ألمانيا. ومن بين أكثر ادعاءات نتنياهو تكرارًا، والأكثر إثارة للاشمئزاز من الناحية الأخلاقية، أن القومية الفلسطينية هي استمرار مباشر لمعاداة السامية النازية.
واليوم، يصور عديد من الوزراء الإسرائيليين الفلسطينيين على أنهم نازيون، بينما أشار يوآف غالانت، وزير الدفاع، إلى العدو باعتباره "حيوانات بشرية"، واستخدم هذا التعبير لتبرير الحصار اللاإنساني الذي فرضه، بقطع الكهرباء، والغذاء، والمياه، والوقود عن 2.3 مليون شخص. وكان من أكثر التصريحات المروعة في قسوتها، بالنظر إلى العدد الهائل من الأطفال الذين قتلوا، تصريح الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ بأن "الأمة بأكملها" في غزة "مسؤولة". إن نزع الصفة الإنسانية عن شعب بأكمله يمكن أن يخلف عواقب سياسية خطيرة حتى لو كانت غير مقصودة. إن نزع الصفة الإنسانية عن اليهود على يد النازيين، كان عاملًا رئيسيًّا في تمهيد الطريق أمام معسكرات الموت. إن شيطنة إسرائيل للفلسطينيين، تشكل ديناميكية خطيرة مماثلة يمكن استخدامها لتبرير التطهير العرقي لغزة.
في المقابل، اشتملت الاستجابة الغربية للأزمة في غزة على النفاق المعتاد والمعايير المزدوجة الوقحة، ولكن هذه المرة تم رفعها إلى مستوى جديد. لقد كان حب الغرب لإسرائيل مصحوبًا دائمًا بإنكار تاريخ الفلسطينين وإنسانيتهم، مع تأكيد جميع القادة الغربيين على القلق العميق بشأن أمن إسرائيل طوال الوقت، ولكنهم لا يدخرون أي وقت للتفكير في أمن الفلسطينيين، ناهيك عن حقوقهم، فمن الواضح أن الفلسطينيين أبناء إله أقل شأنًا. وفي أعقاب هجوم حماس مباشرة، قام القادة الغربيون برحلة حج إلى القدس لإثبات وقوفهم إلى جانب إسرائيل، لقد تم إخراج المقاومة الفلسطينية للاحتلال -وهو الاحتلال العسكري الأطول والأكثر وحشية في العصر الحديث- من سياقها التاريخي. إن الفلسطينيين الآن في نضال ضد الاستعمار، وربما يكون آخر نضال ضد الاستعمار في عالم اليوم، بينما يعزو المراقبون الغربيون هذا النضال إلى التعصب الديني والكراهية غير العقلانية لليهود، وليس إلى الرغبة الطبيعية الكونية لجميع الناس في العيش في حرية وكرامة على أرضهم. إن الموقف الغربي مع إسرائيل، يحمل صدى للميل الاستعماري، الذى اعتاد التعامل مع النضالات من أجل التحرر الوطني باعتبارها دليلًا على وحشية وإرهاب السكان الأصليين. هكذا استجاب "العالم المتحضر" لنضالات التحرير التي خاضها سكان جنوب إفريقيا والجزائر وكينيا وفيتنام، وهكذا ينظر بعض القادة الغربيين إلى المقاومة الفلسطينية اليوم.
لقد قدمت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى إسرائيل ليس فقط الدعم المعنوي ولكن أيضًا قدمت الدعم المادي والعسكري فضلًا عن الحماية الدبلوماسية، فقد قال الرئيس جو بايدن إن هجوم السابع من أكتوبر كان أسوأ هجوم على الشعب اليهودي منذ المحرقة، وهذا من قبيل التقليل من شأن المحرقة. لقد أرسلت أميركا حاملتي طائرات إلى شرق البحر المتوسط وعززت قواتها في المملكة العربية السعودية والعراق والأردن، من أجل حماية إسرائيل من حزب الله وإيران، هكذا مكنت الولايات المتحدة إسرائيل من مواصلة المذابح الجماعية في غزة، وأعطت هي وبريطانيا إسرائيل الإذن بمواصلة حربها على غزة على الرغم من الكارثة الإنسانية التي تسببت فيها. ولقد دعت إلى "هدنة إنسانية"، في حين أن الحاجة الماسة هي وقف إطلاق النار الكامل. وقد أتاح وقف القتال لمدة سبعة أيام إرسال بعض المساعدات الإنسانية إلى غزة، وإطلاق سراح بعض الرهائن من قبل حماس، في مقابل إطلاق سراح ثلاثة أضعافهم من الأسري الفلسطينيين فى السجون الإسرائيلية. ولكن بمجرد انتهاء وقف القتال في الأول من ديسمبر/كانون الأول، كثف جيش الدفاع الإسرائيلي القصف، فقتل 700 شخص في يوم واحد وتفاقمت الأزمة الإنسانية المروعة. في الثامن من ديسمبر/كانون الأول، هُزِم مشروع قرار تقدمت به الإمارات العربية المتحدة إلى مجلس الأمن من أجل وقف إطلاق نار إنساني فوري، وذلك باستخدام حق النقض الأميركي، على الرغم من أنه حظي بدعم ثلاثة عشر عضوًا، وامتناع المملكة المتحدة فقط عن التصويت. ومنذ عام 1948، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض أربعًا وثلاثين مرة لإحباط قرارات تنتقد إسرائيل، صيغت أغلب هذه القرارات لتوفير إطار لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. لقد تم إدانة الفيتو الأمريكي على مشروع القرار الإماراتي على نطاق واسع، وخاصة في الجنوب العالمي، باعتباره بمثابة تصريح مجاني لإسرائيل لمواصلة مذبحة وتدمير غزة.
في خطابه إلى الأمة في الثامن والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول، قال نتنياهو إن الإسرائيليين يخوضون حربهم الثانية من أجل الاستقلال، وهذا سخيف، فلا أحد يهدد استقلال إسرائيل أو وجودها اليوم، إن إسرائيل هي التي تحرم الفلسطينيين من الحرية والاستقلال. ولعل هذا البيان قد حمل تهديدًا مبطنًا أيضًا، ففي عام 1948، كانت حرب الاستقلال كما يسميها الإسرائيليون مصحوبة بالنكبة، وكارثة التطهير العرقي للفلسطينين، وهناك دلائل كثيرة على أن حكومة نتنياهو تخطط في الواقع لنكبة ثانية. فقد حدد تقرير مسرب صادر عن وزارة الاستخبارات الإسرائيلية، بتاريخ 13 أكتوبر/تشرين الأول، ثلاثة بدائل "لإحداث تغيير كبير في الوضع السكاني لقطاع غزة، في ضوء "جرائم" حماس التي أدت إلى قيام حرب "السيوف الحديدية". إن الخطة التي وضعها مؤلفو الوثيقة لخدمة الأمن الإسرائيلي على أفضل وجه، تتضمن نقل سكان غزة المدنيين إلى مدن من الخيام في شمال سيناء، ثم بناء مدن دائمة وممر إنساني غير محدد. كما سيتم إنشاء منطقة أمنية داخل إسرائيل، على الحدود مع مصر، لمنع الفلسطينيين النازحين من الدخول، ولم يذكر التقرير ماذا سيحدث لغزة بمجرد إخلاء سكانها. ويخبرنا التاريخ بأنه بمجرد طرد إسرائيل للفلسطينيين من ديارهم، فإنها لا تسمح لهم بالعودة، هذا ما حدث في حرب 1948 وفي حرب 1967. وعلى الرغم من المعارضة المصرية القوية، فقد يحدث ذلك مرة أخرى. كل هذه ليست أفعالًا معزولة بل جزءًا من إستراتيجية، تخدم الهدف النهائي الذي حددته الحركة الصهيونية لنفسها منذ البداية: بناء دولة يهودية على أكبر جزء ممكن من فلسطين مع أقل عدد ممكن من العرب داخل حدودها. وتمثل عملية السيوف الحديدية خطوة جديدة وقاسية جدًّا في هذا الاتجاه. وكما ذكرت أهداف سويف الروائية البريطانية المصرية، في صحيفة الجارديان في 4 ديسمبر/كانون الأول 2023، "إن شعوب شمال العالم باتوا يدركون ما يعرفه سكان الجنوب منذ مئة عام، وهو أن الصهاينة يريدون كل الأرض، بدون الشعب الفلسطيني، ولن يترددوا في أي شيء للحصول عليها".
في عام 1876، نشر زعيم المعارضة الليبرالية ويليام جلادستون كتيبًا[1] يندد فيه بالفظائع التي ارتكبها جنود الإمبراطورية العثمانية ضد المدنيين في بلغاريا، لقد حُفرت لائحة اتهام جلادستون في ذاكرتي منذ أن كنت في لندن، تلميذًا في الثامنة عشرة من عمره يدرس في مرحلة متقدمة التاريخ البريطاني. وكان المقطع الرئيسي فيها على النحو التالي: "ليحمل الأتراك أوزارهم، بالطريقة الوحيدة الممكنة، وهي أن يحملوها بأنفسهم. أامل أن يرحل ضباطهم ومديروهم وبيمباشيهم ويوزباشيهم وقائمقاماتهم وباشواتهم، كلهم، بكل ما لديهم من أمتعة وعتاد، من الأرض التي دمروها ودنسوها." وهذا هو ما أشعر به تجاه الفظائع التي ارتكبها جيش الدفاع الإسرائيلي في قطاع غزة اليوم.
1- الرعب البلغاري والمسألة الشرقية (The Bulgarian Horrors and the Question of the East)