عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

هوامش

أشرف إبراهيم

بايدن وترامب والدولة العميقة..

2025.11.30

مصدر الصورة : آخرون

كيف تتصارع أجنحة البرجوازية داخل الإمبراطورية الأميركية؟

 

في السنوات الأخيرة، أصبح مصطلح «الدولة العميقة» يتردد كشعار حربي في الخطاب السياسي الأميركي، خاصة من قبل دونالد ترامب الذي يصفه بأنه «شبكة خفية من البيروقراطيين والمخابرات والقضاء تعرقل إرادة الشعب». يُقدَّم الصراع بين ترامب وبايدن –أو ما بينهما من حملات انتخابية عنيفة وتحقيقات واتهامات– كمعركة بين «الشعب الحقيقي» و«النخبة الفاسدة». لكن هذا الخطاب الشعبوي يخفي جوهر الظاهرة: الدولة الأميركية ليست كتلة مترابطة واحدة، بل هي ساحة تنافس بين أجنحة مختلفة داخل الطبقة البرجوازية على كيفية إدارة الإمبراطورية الرأسمالية المتعثرة أمام أزماتها الداخلية والخارجية.

وصف كارل ماركس في البيان الشيوعي الدولة الحديثة بأنها «لجنة تدير الشؤون المشتركة للطبقة البرجوازية بأكملها»، لكنه في «الثامن عشر من برومير - لويس بونابرت» يوضح أن هذه اللجنة ليست منسجمة دائمًا، بل تعكس صراعات داخل الطبقة الحاكمة بين فصائل تتنافس على السيطرة على أجهزة الدولة (الجيش، المخابرات، البنوك، الإعلام). في السياق الأميركي، تمثل «الدولة العميقة» هذه الأجهزة المؤسسية المتجذرة: المجمع الصناعي-العسكري، وول ستريت، وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، البنتاغون، وبنك الاحتياطي الفيدرالي، التي تستمر في سياساتها الأساسية (الهيمنة الدولارية، التدخلات العسكرية، قمع الحركات العمالية) عبر تغيّر الرؤساء.

هذه المقالة تعيد صياغة الصراع بين بايدن (جناح النيوليبرالية العالمية) وترامب (جناح القومية الشعبوية) كتعبير عن تنافس برجوازي داخلي، لا صراع طبقي حقيقي. سنتتبع جذور هذا التنافس، أجنحته، وحدوده، مستندين إلى تحليل ماركسي يركز في المصالح المادية لا الشخصيات.

مفهوم الدولة العميقة من منظور ماركسي

يُستخدم مصطلح «الدولة العميقة» شعبويًّا للدلالة على مؤامرة سرية من بيروقراطيين وجواسيس يحاربون «الرئيس المنتخب»، كما روّج ترامب خلال فترته الأولى (2017-2021) عبر تغريداته عن «التسريبات الخبيثة» من «CIA» و«FBI» في تحقيق مولر حول «التدخل الروسي» في الانتخابات الأمريكية. هذا الخطاب يجذب قاعدة ترامب من العمال البيض في الولايات الصناعية المتضررة من العولمة، الذين يرون في «النخبة الليبرالية» سبب بؤسهم. لكن المنظور الماركسي يفكك هذا إلى بنية مادية ملموسة: الدولة كأداة طبقية تحمي مصالح البرجوازية، مع «عمقها» في الأجهزة المستقلة نسبيًّا عن الانتخابات، التي تضمن استمرارية السياسات الإمبريالية عبر الإدارات المتعاقبة.

منذ تأسيس الولايات المتحدة عام 1787، كانت الدولة الأميركية مصمّمة لحماية الملكية الخاصة، لكنها تطوّرت مع الإمبريالية. في الحرب الباردة (1947-1991)، شكّل مجتمع الأمن القومي نواة الدولة العميقة: CIA أسّست عام 1947 لتنسيق العمل بين أجهزة الاستخبارات، وNSA عام 1952 للتجسس الإلكتروني، مع ميزانيات سرية تضاعفت بعد 11 سبتمبر إلى 88 مليار دولار عام 2023. المجمع الصناعي-العسكري، الذي حذّر منه أيزنهاور، يربط 800 شركة عسكرية بـ5 ملايين وظيفة، ويُساهم بنسبة 3.5% من الناتج المحلي.

تضيف وول ستريت الطبقة المالية: البنوك الكبرى (جي بي مورغان، سيتي جروب) أنفقت 2 مليار دولار على اللوبيات في 2024، وتسيطر على 60% من أصول الصناديق الاستثمارية العالمية. القضاء الفيدرالي، مع 870 قاضيًا مدى الحياة، يحمي المصالح الرأسمالية عبر قرارات مثل «سيتيزن يونايتد» (2010) التي فتحت الباب لتمويل الانتخابات بالمال الخاص. الإعلام (الستة الاحتكارية مثل ديزني وكومكاست) يعمل كجهاز أيديولوجي، يدعم جناحًا ضد الآخر.

هذه الأجهزة تؤمن استمرار السياسات الرئيسية باختلاف الإدارات الحزبية، كما في استمرار العقوبات على كوبا منذ 1960، أو دعم إسرائيل بـ3.8 مليارات دولار سنويًّا عبر إدارات ديمقراطية وجمهورية.

جورج فريدمان المحلل الإستراتيجي الأمريكي وخبير الشؤون الدولية والجيوسياسية يرى دورًا موجودًا للدولة العميقة منذ 1871 مع قانون الخدمة المدنية الذي حدّ من سلطة الرئيس على الموظفين. مايك لوفغرين الكاتب والمحلل السياسي الأمريكي وصفها عام 2014 بـ«رابطة هجينة بين الحكومة والممولين والصناعيين الذين يحكمون دون استشارة الناخبين». هكذا، الدولة العميقة ليست مؤامرة، بل هيكلًا يضمن هيمنة الرأسمالية، مع صراعات داخلية حول إدارتها.

جناح النيوليبرالية العالمية – بايدن وإدارة الإمبراطورية المعولمة

يمثل جو بايدن (2021-2025) جناحًا برجوازيًّا يعتمد على رأس المال المالي (بلاك روك، فانغارد)، عمالقة التكنولوجيا (غوغل، ميتا، أمازون)، والمجمع العسكري-الليبرالي، الذي بلغ ذروته مع كلينتون (NAFTA 1994) وأوباما (TPP). هذا الجناح يرى في العولمة والتحالفات الدولية (الناتو، مجموعة الدول السبع الصناعية G7)، صندوق النقد، أدوات للهيمنة على الأسواق، مع إصلاحات اجتماعية شكلية لتهدئة الاحتجاجات مثل Black Lives Matter أو إضرابات أمازون.

سياسة بايدن الخارجية تجسّد ذلك: أرسل 175 مليار دولار إلى أوكرانيا لتعزيز الناتو ضد روسيا، مع عقوبات على 1400 كيان صيني للحفاظ على تفوق الرقائق (قانون CHIPS 2022) بـ52 مليار دولار، ودعم إسرائيل بـ18 مليار دولار في حرب غزة. داخليًّا، أنقذ البنوك بعد كوفيد بـ5 تريليون دولار، وزاد الحد الأدنى للأجور شكليًّا، بينما قمع إضرابات في Starbuck وUPS.

هذا الجناح يسيطر على «الدولة العميقة»: CIA وFBI يدعمان التحالف، والقضاء يحقق في قضايا ترامب (91 تهمة). النتيجة: استمرارية إمبريالية تخفي تناقضاتها خلف «الديمقراطية الليبرالية».

جناح القومية الشعبوية – ترامب وإعادة تقسيم الغنائم الإمبريالية

في مقابل ذلك، يقود ترامب جناحًا برجوازيًّا قوميًّا يضم قطاعات الطاقة الأحفورية (إكسون)، الصناعات التقليدية (فولكس واجن الأميركية)، ورأس المال الصغير-المتوسط الذي يشعر بالخسارة من العولمة. شعار «أميركا أولًا» يعني حمائية تجارية (تعريفات جمركية على الصين بنسبة 60%)، إعادة توطين التصنيع، وابتزاز الحلفاء (تهديد سحب القوات من أوروبا إلا مقابل دفعات مالية).

هجوم ترامب على «الدولة العميقة» حقيقي جزئيًّا: محاولات استبدال بكوادر CIA وFBI ولاء شخصيًّا، ورفض تحقيق مولر حول «التدخل الروسي» باعتباره محاولة من الجناح النيوليبرالي للإطاحة به. هذا الجناح يوظّف غضب العمال البيض والفئات الوسطى ضد «المهاجرين والنخب الليبرالية»، لا ضد الرأسمالية، ما يعزز سلطويته داخليًّا (قوانين مكافحة الإرهاب، جدران حدودية). مع ذلك، لا يرفض الإمبريالية، بل يعيد ترتيبها لصالح مصالح قومية، كما في صفقات أبراهام مع الخليج.

حدود الصراع وتداعياته على الطبقة العاملة

رغم حدّة الصدامات السطحية بين جناح بايدن النيوليبرالي وجناح ترامب القومي الشعبوي، يظل الاتفاق الأساسي بينهما عميقًا وثابتًا على جوهر الرأسمالية الإمبريالية الأميركية. كلا الجناحين يدعم ميزانيات عسكرية هائلة تفوق 886 مليار دولار لعام 2025، ما يعكس التزامًا مشتركًا بتغذية المجمع الصناعي-العسكري كعمود فقري للاقتصاد والسيطرة العالمية، كما أكد بايدن في خطاب الاتحاد الأخير له قائلًا: «سنستمر في دعم قواتنا المسلحة للحفاظ على تفوقنا العالمي»، بينما وعد ترامب خلال حملته الانتخابية بزيادتها إلى تريليون دولار. يرفضان معًا أي إصلاح جذري للملكية الخاصة أو إعادة توزيع الثروة، ويواصلان قمع النقابات، حيث انخفضت نسبة التأمين النقابي إلى 10% فقط من القوى العاملة، مع هجمات مستمرة على إضرابات مثل تلك في أمازون وستاربكس تحت بايدن، ومحاولات ترامب السابقة لإضعاف قانون PRO Act.

الاختلاف بينهما تكتيكي بحت: جناح بايدن يدير الإمبراطورية عبر عولمة متعددة الأطراف والتحالفات الدولية (الناتو، G7)، بينما يفضل ترامب قومية صدامية وحمائية تجارية لإعادة توطين بعض الصناعات لصالح رأس المال القومي. كما يصف تحليل ماركسي في «ماركسي» (marxy.com):«كلا الجناحين يخدم الرأسمالية؛ بايدن يعيد شرعية النظام نيابة عن وول ستريت، بينما يستغل ترامب غضب العمال لتعزيز سلطويته دون تغيير جوهري». هذا الاتفاق يتجاوز الشخصيات، فالسياسات الأساسية –من دعم إسرائيل إلى العقوبات على الصين– تستمر عبر الإدارات.

الطبقة العاملة الأميركية، التي تضم حوالي 160 مليون عامل وتشهد تفاقم التفاوت الطبقي (حيث يملك 1% 32% من الثروة الوطنية، وفق إحصاءات الاحتياطي الفيدرالي لـ2024)، يعني هذا الصراع استمرار الاستغلال بأشكال متباينة لكن متكاملة. خطاب ترامب يعبّئ العمال ضد «الدولة العميقة» و«النخبة الليبرالية» بدلًا من رأس المال، موجّهًا غضبهم نحو المهاجرين والأقليات والـ«ووكية». في انتخابات 2024، فاز ترامب بنسبة 53% من أصوات الطبقة العاملة في بنسلفانيا، حيث اعتبر 37% الاقتصاد القضية الأولى، كما يقول تقرير «الحرة»: «ترامب ربح حروب الثقافة، والطبقة العاملة تستدير يمينًا بسبب الاغتراب الثقافي والاقتصادي». ترامب نفسه قال في تجمع ميشيجان: «أنا حزب العامل الأميركي، سأجلب الوظائف من الصين».

من ناحية أخرى، يقدّم بايدن إصلاحات رمزية لتهدئة الغضب: زيادة الحد الأدنى للأجور إلى 15 دولارًا (غير ملزمة)، ودعم محدود للنقابات في البنية التحتية، لكن دون المساس بأرباح وول ستريت. بايدن قال: «سنبني اقتصادًا يعمل للجميع»، لكن تحليلًا ماركسيًّا يرى في ذلك «إخضاع مصالح العمال للرأسماليين عبر وحدة وطنية زائفة». في 2024، خسرت كامالا هاريس الطبقة العاملة بـ13 نقطة وطنيًّا، و17 في بنسلفانيا، حيث تحول عمال حزام الصدأ (الذين صوّتوا لأوباما سابقًا) إلى ترامب بسبب فشل الديمقراطيين في مواجهة الحملات الثقافية حول الهجرة والمتحولين جنسيًّا، كما يفسر الدكتور بول كلارك: «النقابات توعّي أعضاءها اقتصاديًّا، لكن خارجها تسيطر فوكس نيوز برسالة الخوف».

هذه الإستراتيجية تمنع ظهور وعي طبقي حقيقي. ترامب يستغل الإحباط من فقدان 5 ملايين وظيفة بسبب NAFTA والعولمة، لكنه في ولايته الأولى خفض الضرائب على الشركات بنسبة 40% وزاد الدَّين العام بـ8 تريليونات دولار، ما أفاد المليارديرات. تقول «ماركسي»: «ترامب ملأ الفراغ الناتج من غياب قيادة نقابية مناضلة بخطاب جريء، لكنه يدعو إلى شراكة مع أرباب العمل». بايدن، بدوره، أنقذ البنوك بـ5 تريليونات في كوفيد بينما خسر 20 مليون عامل وظائفهم مؤقتًا، وفشل في منع تضخم بلغ 9% عام 2022 الذي أفقر العائلات.

النتيجة: تفاقم التفاوت، حيث ارتفع الدخل المتوسط بنسبة 2% فقط مقابل 15% للـ1% الأعلى دخلًا، مع انخفاض الأجور الحقيقية بنسبة 3% منذ 2020. في rust belt، يعاني عمال الفولاذ والسيارات من عدم أمان (40% يخشون فقدان الوظيفة)، وهذا الغضب الطبقي المشوّه يُوظَّف شعبويًّا دون حل جذري. ماركس في «رأس المال» يصف هذا بـ«الوعي الزائف»، حيث «العمال يُعبَّؤون بعضهم ضد بعض بدلًا من الرأسماليين». كما يقول جون بيترسون في «ماركسي»: «الطبقة العاملة منقسمة؛ النقابات تميل إلى الديمقراطيين، لكن الصناعيين يدعمون ترامب».

نحو تحليل يساري مستقل

بالنسبة إلى اليسار، يعني ذلك ضرورة رفض الاصطفاف مع أي جناح: لا دعم بايدن كـ«أهون الشرين» الذي يدعم وول ستريت، ولا خداع بخطاب ترامب الذي يعزّز العنصرية والسلطوية. بدلًا من ذلك، بناء حزب عمالي مستقل يربط النضالات المحلية (إضرابات، احتجاجات) بتحليل طبقي عالمي، مستغلًّا تناقضات البرجوازية لتوسيع النضال. تقرير «بروكينجز» يحذّر: «بنسلفانيا تمثل التحدي الوطني؛ فهمها يعني فهم أمريكا». هكذا، حدود الصراع تكشف هشاشة النظام، لكنها تتطلب وعيًا طبقيًّا لتحويل الغضب إلى ثورة.

الصراع بين بايدن وترامب صراع برجوازي داخلي يجب على اليسار عدم الانخراط فيه، بل استغلال تناقضاته لبناء نضال طبقي مستقل. فهم «الدولة العميقة» كهيكل طبقي يفتح أفقًا لتحالفات عمالية عابرة للحدود. يكمن التحدي في ضرورة بناء بديل اشتراكي يتجاوز فخاخ الشعبوية.