فنون
شيماء ياسربيبو وفن الحكي
2024.04.27
تصوير آخرون
بيبو وفن الحكي
في حضوري لأول عرض حكي انتابني الفضول عن سر العدد الكبير للحضور. العصر هو عصر الرقميات والمنصات والريلز والصورة، حتى جهاز الراديو والإذاعة أصبح وجودهما أو الاعتماد عليهما للترفيه عند كثيرين غير منطقي مع وجود غول رقمي سحب البساط من الكلمة المقروءة والمسموعة.
في البدء كانت الكلمة، من صعيد مصر، أحد الروافد الهامة في تاريخ وتراث الحكي في مصر، وتحديدًا من "أبو قرقاص"، حيث جاء أبانوب زكريا، الذي يحمل اسمه حكاية من الحكايات بدأ بها حديثه، حتى الاسم له حكاية. حكاية أبانوب أنه أبو الذهب كما جاء في اللغة المصرية القديمة؛ فـ"نوب" تعني: الذهب، فهو أبا نوب، أبا الذهب، أليست الحكايات من ذهب؟!
أبانوب أو بيبو، 29سنة، دارس لنظم المعلومات، ويعمل بوظيفة إدارية في إحدى الشركات، وقبل ذلك كان مجرد "طفل شقي" كثير الكلام والحركة، هكذا بدأ الأمر، دون وجود أي صفات شخصية في بيبو تجعله يُوصف بأنه من الحَكَّائيين.
انجذب للتمثيل في مسرح المدرسة، ثم في مسرح الكنيسة، بعدها انطلق في تعلم الأمر من خلال ورش مختلفة للتمثيل والسايكو دراما والإخراج وغيرها. وبعد تكوينه لفرقة تمثيل مستقلة، بدأ تجواله في الصعيد والمحافظات لتقديم عروض المسرح المختلفة.
في 2016 شارك مع فرقته بأحد العروض في مهرجان الجيزويت للمسرح في المنيا، وهو مهرجان مفتوح للفرق المستقلة. كان مدير المهرجان حينها حسن الجريتلي، مؤسس فرقة الورشة المسرحية، الذي عرض على بيبو الانضمام للتدريب في فرقة الورشة، وهو ما كان من أحلام هذا الممثل الصغير، وكاد الطريق يتضح وينضبط إيقاعه، لكن في 2017 كان على أبانوب أن يقضي سنة في الخدمة العسكرية.
مع التجنيد اضطر لفض الفرقة، وتأجيل الحلم، وتأخر التواصل مع الجريتلي حتى كان اللقاء الثاني في القاهرة كأحد المتدربين في فرقة الورشة في دفعتها الرابعة، تحديدًا في يوليو 2018.
يحكي بيبو أن أول معرفته بفن الحكي كان من خلال فرقة الورشة، فلم يكن لديه قبل ذلك اهتمام إلا بالتمثيل وشغف بالأداء، لكن مع اكتشاف فن الحكي اكتشف سحر هذا العالم في خلق صورة ذهنية كاملة عن طريق الكلام فقط.
يقول بيبو: "في التمثيل تكون الصورة البصرية مخلوقة بالفعل أمامك؛ من ديكور وإضاءة وملابس، لكن في الحكي فإنه يُطلَب مني كحَكَّاء خلق صورة ذهنية في عقلك كمتفرج. شكل الحكي وشكل الشخصيات في حدوتة الحكي وزمنها؛ أكوِّن في دماغي أنا أولًا الصورة كفيلم صغير؛ حتى تنتقل لأدمغة الجمهور بالحكي. أحببت الحكي أكثر، لكن لم أُلغِ نفسي كممثل، وما زلت أمارس ذلك؛ فكلاهما يكمل الآخر، والحكي ملكة أخرى غير التمثيل ويُكمِلُني كممثل".
من خلال التدريبات مع الجريتلي وفرقة الورشة، كان اكتشاف ميزة إضافية في حكي بيبو بحكم نشأته في صعيد مصر، وهي اللكنة الصعيدية، فهو لا يستخدمها عادة، لكنها في حكي بعض الحكايات تضفي سحرًا وعمقًا على الحكاية، ومن هنا أصبحت معظم حكايات بيبو بلكنة صعيدية أصيلة.
لا يرتبط ذلك على حد قوله بارتدائه الجلباب الصعيدي كنوع من الدخول في مود الحكاية، بل على العكس، يتعمد أن يكون تركيز الجمهور مع الكلام والأداء أكثر من المظهر.
أمَّا عن مصادر حكاياته سواء في عروض فرقة الورشة أو عروضه الخاصة، فيذكر بيبو أسماء لبعض المؤلفات التي تضم حكايات من التراث والفلكلور والمرويات الشعبية؛ منها: كتاب الحكي الشعبي في الدقهلية، لكاتبه فتوح أحمد فرج، وقامت فرقة الورشة بإعادة نشره والاستفادة منه، وغيره من الكتب للسيرة الهلالية، وحسن نعيمة، وياسين وبهية وغيرها.
سألته هل يمكن ارتجال حكاية على المسرح أمام الجمهور؟ يرد بيبو مؤكدًا أن الحكاية لا بد أن تكون مكتوبة ويتم تحضيرها والتدريب عليها مسبقًا أكثر من مرة؛ سواء كانت مأخوذة من كتاب، أو كانت من بنات أفكار الحَكَّاء، أو مما سمعه من حكايات قديمة أو معاصرة.
ويَحكِي أن أحد عروضه الرمضانية ضم حكايته هو عن علاقته برمضان في الصعيد بعد أن أعدها للحكي، بجانب حكايات أخرى تراثية. قد يرتجل الحَكَّاء داخل الحكاية المعدة سابقًا لأسباب مختلفة، لكن من الصعب أن يرتجل حكاية كاملة بدون إعداد الجمل ودوافع كل جملة.
"كل الناس ممكن تحكي، لكن مش كله هيكون حَكَّاء"، جاءت إجابته هكذا قاطعة في تحديد مواصفات الحَكَّاء الجيد. الدراسة والتركيز من أهم العوامل، والأهم هو محاولة إيجاد طريقتك الخاصة التي ستتميز بها عن الآخرين.
تحديد نوع الحكي أيضًا من العوامل المهمة؛ فالحكي أنواع؛ منه: الشعبي، ومنه التراثي، ومنه الشخصي. تحديد الطريق مهم، وكذا العمل بشكل مستمر على تكوين الذائقة والمهارات، "تشوف كتير وتسمع أكتر"، لغة الجسد مهارة يتوقف عليها نجاح الحكي وشكل التواصل مع الجمهور على المسرح.
سألته: كيف تكون عين وأذن الحَكَّاء لابن " كاره" كما نقول؟ يرد بأنه يحضر عروض أصدقائه وغيرهم من الحكائين أو عروض المسرح، لكن بوصفه متفرجًا ومشاهدًا ينتظر أن يستمتع وقد ترك الحكاء خارجًا، ويجلس بيبو الذي يفكر إلى أي درجة استطاع الواقف على المسرح أن يجذبه إليه بدخول قوي، وبدايته ونهايته في التركيز والتواصل مع الجمهور، وهل لغة جسده وحركاته مناسبة للحكاية أم تفصل الجمهور عنها؟ وما مدى تمكُّنِه من أدواته؟
أقصى وقت لعرض الحكي من 40 إلى 50 دقيقة إذا كان القائم به شخصًا واحدًا وليس مجموعة، وهذا الوقت قد يضم أكثر من حكاية يفصل بينها الحَكَّاء بطرق مختلفة؛ وأحيانًا يستعين بعزف قصير على آلة من الآلات أو غناء قصير أو يكتفي بتواصل فكاهي خفيف مع الجمهور.
سألته: هل كل حكاية يمكن أن تُحكى؟! يرد بيبو أنه حسب الموضوع يَختار الحكاية؛ بداية يختار اسمًا خاصًّا بكل ليلة حكي له دلالة مرتبطة بالحكايات التي سيحكيها، فيختار الحكايات حسب ما يريد أن يوصله من معنى أو رسالة أو فكرة في كل ليلة، والهدف منها. والتوقيت يدخل كذلك أحيانًا في الاختيار؛ فرمضان أو المواسم الدينية المختلفة قد تدفع لحكي صوفي بدرجة أكبر.
عند بيبو، الاستعداد لعرض الحكي لا يقل عن أسبوع، بل قد يزيد حتى يصل إلى شهور حسب الحكاية وتفاصيلها وإحساسه بها، وفي بروفات العرض يستعين أيضًا بجمهور ولكن بنوع مختلف منه؛ الأم أو الأصدقاء يكونون هم مرآة لحكاية جديدة يستعد أن يحكيها لجمهور أكبر.
اعتدنا أن نسمع عن تمرين المرآة لمن يريد أن يكسر حاجز الرهبة في الكلام أمام الناس، بصرف النظر عن نوع المحتوى المقدَّم. مثل هذا الأسلوب يرفضه تمامًا بيبو في فترات البروفة والاستعداد؛ لأنه يلغي تواصله مع جسده ومع الحكاية وإحساسه بها، وأثر الجملة على جسده وأدائه، وينصرف لمراقبة جافة للملامح والمظهر.
توتر ما قبل العرض وتوهم نسيان الحكايات، يعتبرها بيبو أعراضًا إيجابية تدل على صدق الإحساس بمسؤولية الرسالة والحكاية التي تنتظرك لتحكيها، ويكون على "الدَّخلة" هنا عامل كبير لكسر حاجز الرهبة، فيبدأ بقصيدة أو "إفيه" أو بتواصل مع الجمهور ليحكي أحدهم موقفًا طريفًا حدث له في الطريق. ولكل حكاية "دَخلة" مختلفة على حسب الحكاية.
كما يحتاج الحَكَّاء إلى سرعة بديهة لتجاوز حالات النسيان المفاجئة أو الارتباك في بعض تفاصيل الحكاية بشكل مؤقت في عقله، ومن هنا تحدث مواقف بعضها طريف وبعضها سخيف. كما أنه من غير المقبول قطع الحدوتة وإنهاؤها فجأة دون ترتيب، فإن سرعة تدارك الحكاء للأمر يتوقف عليه نجاحه بشكل كبير؛ فوجود الخطة البديلة أمر لا مفر منه.
على مدار خمس سنوات، شارك بيبو في العديد من العروض داخل مصر وخارجها، وتحديدًا في الأردن من خلال مهرجان حَكايا، كمهرجان سنوي خاص بفن عروض الحكي على مستوى العالم، وشارك في مصر في كثير من الأماكن، مثل: مسرح الفلكي بالجامعة الأمريكية، وبيت السناري، وبيت السحيمي، ومركز الهناجر، والجامعة الأمريكية بالتجمع، ومقر فرقة الورشة، ومركز دوار، ومعهد جوته، والمعهد الفرنسي، وتتوالى العروص في كل منها مرات عديدة.
استطاع بيبو الحفاظ على وجود ليلة ثابتة للحكي في الجمعة الثانية من كل شهر من خلال مركز دوار في وسط البلد " قعدة حكي، كان يا ما كان" هو اسم دائم لليلة التي يقرر بيبو أن يعكس فيها الدور مع الجمهور ليسمع منهم حكاياتهم، ويقوم بدور الوسيط بينهم وبين الحكاية.
وكما يؤكد لي بيبو أن نسبة الإقبال على حضور عروض الحكي كبيرة، وكذلك نسبة الراغبين في اكتساب مهارة وفن الحكي والتمكن من أدواته. هذا ما جعلني أتساءل عن قيمة الحكي كفن، ولماذا يتصاعد الاهتمام به في الفترة الأخيرة بشكل خاص؟ بالتأكيد مصر هي أولى الثقافات والحضارات التي أسست لفن الحكي بأشكال مختلفة، والأصل اللغوي للكلمة يأتي من اللغة المصرية القديمة، وتواصل الأمر على مر السنين لنتربى جميعًا بدرجات مختلفة على حكايات الجدات وحكايات قبل النوم.
لكن يظل إحياء الاهتمام بفن الحكي حركة حديثة جدًّا في السنوات الأخيرة، ويفسره بيبو بما نعيشه من ضغوط وأزمات نفسية عادت بنا إلى الحاجة للحكي كوسيلة للتعبير؛ الحكي وسيلة صادقة في التعبير، بلا تصنع أو تكلف، وهو نوع من أنواع العلاجات بالفن التي انتشرت أيضًا في الفترة الأخيرة بشكل ملحوظ. تحفر بداخلك وتكتب أو يستقر اختيارك على حكاية لامست روحك في شيء قد لا تملك القدرة على المصارحة به.
إقبال الجمهور، كما يقول بيبو، لتعلم الحكي على المستوى الإنساني أكثر منه على المستوى المهني بدافع الشغف والرغبة في التعبير عن ذاته، الرغبة في أن تكون سليمًا ومعافًى؛ فالحكي وسيلة للتعافي بطبيعته فنًّا، والفنون عامة وسيلة للعلاج بمختلف أشكالها.
ويختم بيبو، هذا الحَكَّاء الشاب، حديثه بسؤال غاضب عن سر غياب مهرجان للحكي في أول بلاد العالم التي أسست لهذا الفن، غياب تجميع الحكائين ووجود دعم فني ومهني ومادي لهم، أمر غير مفهوم ولم يعد له مكان مع تزايد الاهتمام به والإقبال عليه من شرائح المجتمع المختلفة. على المستوى العربي لا يوجد سوى مهرجان الأردن الذي يقام في شهر سبتمبر من كل عام، ويتجمع فيه حكاؤون على مستوى العالم، وآخر يقام في فلسطين، ولكن يصعب حضوره على عدد كبير من الحكائين من خارجها؛ ولذا فهو يعتمد بالدرجة الأولى على الحكائين الفلسطينيين.
تبقى فرقة الورشة بقيادة حسن الجريتلي أول سعي لنشر فن الحكي وإعادة إحيائه من جديد في مصر. ويتساءل بيبو عن سر تجاهل القطاع العام والخاص على السواء لفن الحكي وعدم تنظيم وجوده ودعم أفراده ومبدعيه!