ثقافات

أمير الـصرّاف

تمشية في دار آل »عبد النُّور«.. ماذا اكتشفنا في جرجا؟

2024.10.06

تصوير آخرون

تمشية في دار آل »عبد النُّور«.. ماذا اكتشفنا في جرجا؟

من الصعب أن تترجل على قدميك بمدينة جرجا، التي تبعد عن القاهرة نحو 520 كيلو مترًا ، في وقت الظهيرة خاصة في الشوارع التي تعج بالمتاجر والأسواق، المركبات الصغيرة الهندية المَنشأ كثيرة العدد وتختلط بالكتل البشرية في الشوارع بشكل تبدو فيه تجربة الترجُّل بالنسبة للغرباء عن المدينة التاريخية مغامرة مرهقة، بعد أن ضربت العشوائيات المدينة ذات التاريخ الممتد من العصر الفرعوني إلى العصر المملوكي - العثماني. 

في جرجا يسمون النيل بحرًا ككثير من سكان بلاد الصعيد، كنت أسأل عن شارع الكورنيش المطل على نهر النِّيل وصحح لي التسمية سائق المركبة! هناك تتراص بشكل عمودي ثلاثة قصور قديمة عَنْوَن اثنين منها لافتاتٌ حديثة بأنهما من أملاك ورثة جورجي بك مشرقي، ومن الواضح أنه كان من طبقة أعيان الإقليم، ويُلاحَظ مدى الإهمال والإتلاف الذي حل بالقصرين المتجاورين مقارنة بالقصر الثالث المجاور لهما والذي يبدو حجم الاهتمام به وكأنه مأهول بالسكان. 

على باب القصر الثالث ذي الباب الحديدي، كان يقف المحامي محسن وديع - وكيل العائلة ومدير أملاكها، ويظهر من خلفه لافتة من الرخام الأبيض كُتب عليها: قصر فخري بك عبد النور، شُيِّد سنة 1906، كان أريج الزهور يفوح من داخل حديقة القصر ويُنبه الزائر أنه في طريقه إلى حديقة غنَّاء، يبذل رجلان طاعنان في السن جهودًا يومية كبيرة للحفاظ على النباتات وريِّها وتقليمها، ورغم كبر عمرهما الذي قضياه في القصر فإنهما كانا يتحركان في خفة وهدوء، ويمارسان عملهما بدأب شديد، في الداخل كانت هناك ثلاثة كلاب حراسة تولَّى الرجلان إبعادها عنا، ولكنَّ واحدًا منها أصر أن يرافقنا في جولتنا في الحديقة المُبهرة. 

يحيلك باب القصر الخارجي إلى باب القصر أو السراي الرئيس، وفي تلك اللحظة ستستدعي ذاكرتك فورًا الصورة الشهيرة للخديوي عباس حلمي باشا، في 9 فبراير 1910 عند زيارته للقصر وصاحبه فخري عبد النُّور ومنحه رتبة البكوية بعدها، فما زالت تفاصيل الصورة القديمة موجودة رغم مرور 113 سنة على التقاطها! بما فيها درج السلم وسوره المكون من 5 كتل مربعة متراصة فوق بعضها على كل جانب، والباب الخشبي المؤدي إلى داخل القصر! 

يتوسط القصرَ الرئيس الحديقةُ ويتألف من 4 طوابق بما فيها البدروم، ويتعامد الباب الخارجي للقصر مع الباب الداخلي، وإلى الجنوب من منشأة القصر يقع مبني صغير منفصل من طابق واحد يتكون من 5 عقود بنائية يتوسطها المدخل الرئيس، وكان هذا المبني ديوانًا لموظفي دائرة أملاك فخري عبد النور، ويحيط بالمبنيَينِ حديقة كبيرة محاطة بسور مرتفع. 

شُيِّد القصر بطراز المباني الشائع في زمن بنائه أول القرن العشرين، والذي فضلته طغمة الأعيان والوجهاء. حرَصَ البناؤون على استخدام نمط كلاسيكي في بناء منشأة القصر يبرز الفخامة دون التقييد باستخدام تفاصيل فنية كثيرة، يظهر ذلك في الواجهات الثلاث الرئيسة لمنشأة القصر من الخارج التي تتشابه مع بعضها البعض؛ حيث استُخدمت العقود البنائية في كتل الواجهات والأعمدة ذات التيجان الكورنثية، وقد حرَصَ البناؤون أيضًا على إحداث مغايرة لكسر رتابة التشابه بين الواجهات الثلاث من خلال استخدام 3 أنماط فنية في زخارف وتفاصيل واجهات الشرفات والأبواب في طبقات القصر الثلاث، ويُلاحَظ تخصيص نمط لواجهة الباب الرئيس للقصر، ونمط ثانٍ لباقي واجهات شرفات وأبواب الطابق الأول، وتوحيد النمط الثالث في واجهات أبواب وشرفات الطابقين الثاني والثالث من منشأة القصر. 

يحتاج التقاط تفاصيل منشأة القصر من الخارج إلى وقت طويل؛ فالتفاصيل ثرية ومتنوعة رغم أنها تبدو بسيطة، هذه التفاصيل استوقفت سعد باشا زغلول زعيم الحركة الوطنية المصرية؛ ففي صيف 1910 كان سعد زغلول يقوم بجولة تفتيش على محاكم الوجه القبلي عندما كان وزيرًا للعدل/ الحقانيّة بعائمة نيلية، دعا فخري بك عبد النُّور -الذي كان متواجدًا في جرجا- الوزير إلى قصره فلبى طلبه وفي معيته زوجته صاحبة العصمة صفية زغلول، وسكرتيره الخاص، وعدد من مسؤولي الحقانيّة. 

سأل »الزعيم« »عبد النُّور« وهو معجب بتفاصيل عمارة القصر: مَن بناه؟ ومن المفارقة الغريبة أن فخري بك عبد النُّور عندما شرع في تشييد قصره في الأرض التي ورثها عن والده سنة 1906، وأنفق على بنائها 10 آلاف من الجنيهات، نظم له صديقه الشيخ محمد سالم الجرجاوي أبياتًا من الشعر تُؤرخ لبناء القصر، وتم وضعها في أساسات البناء كالعادة المعمول بها إلى وقتنا هذا وإن اختلف المحتوى، هذه الأبيات ضمت اسم »سعد« وربما حكمت القافية والصدفة ذلك! تقول الأبيات: 

طالع السعد وافي وبدا باليُمن بدري

و»سراي« العزّ تمت في رُباها النيل يجري

والهنا نادي يُؤرخ دار »سعد« فيها »فخري«! 

كان الشغف يُعجِّل بي لمغادرة الحديقة والدخول لذلك القصر الذي ما زال يحتفظ بتفاصيله القديمة التي يتجاوز عمرها أكثر من قرن من الزمان، نحو 118 سنة تقريبًا! وبرويَّة دفع الرجل الستيني باب القصر الخشبي لتبدأ رحلة في عمق التاريخ. 

يؤدي الباب إلى ردهة قصيرة على جانبيها غرفتان إحداهما غرفة استقبال الضيوف الرئيسة إلى يمين الداخل إلى القصر، وفي نهاية الردهة يوجد مدخل يأخذ شكلًا نصف دائري على جانبيه عمودان ويؤدي إلى ردهة القصر الرئيسة التي تفتح عليها غرف الطابق الأول ويفصل بينها وبين الدرج المُؤدي إلى الطابق الثاني حجاب خشبي يأخذ شكلًا نصف دائري في أعلاه، ويزينه الزجاج الملون. 

توحي غرفة الاستقبال الرئيسة للقصر للزائر بأنه دخل متحفًا! هذا الإيحاء يتولد من نمط الإضاءة الخافتة واتساع مساحة الصالون والفوتغرافيا النادرة التي تزين الجدارن والقطع النادرة المجلوبة من خارج مصر لصالح القصر، ومنها المرايا والنجفة ذات القناديل، والستائر النادرة التي لم تتغير منذ تأسيس القصر، وكذلك رسوم الجدران والسقف. 

تُعرف الفوتغرافيا والبورتريهات الشخصية، المُعلقة على الجدارن مبدئيًّا بسلسال عائلة عبد النُّور على مر الزمن الجد الأكبر، ثم نجله ثم حفيده »فخري« مالك القصر، ومرسوم حصول فخري عبد النُّور على البكوية من الخديوي عباس باشا حلمي. 

تعرض الفوتغرافيا أيضًا أحداثًا ومناسبات منها وليمة الغذاء التي أقامها محمد فتح الله بركات وفخري بك عبد النور لأعضاء الوفد المصري بفندق شبرد في صيف 1920، وتعرف الفوتغرافيا أيضًا بالاستعدادات الكبيرة التي أقامها فخري عبد النُّور أمام قصره؛ احتفالًا بقدوم سعد زغلول إلى جرجا ضمن زيارته للصعيد بالباخرة نوبيا سنة 1921، حيث المرسى النيلي والبوابات والزينات. 

كما تبيَّن الفوتغرافيا أيضًا تعرض »عبد النُّور« لأزمة صحية كبيرة سنة 1937 - قبل وفاته بخمس سنوات، دفعت مشغل ذكرى الملك فؤاد الأول لتعليم اليتيمات بالجمالية بالدرب الأصفر، لكتابة أبيات من الشعر لتهنئة »عبد النُّور« بالشفاء من الوعكة! 

تحوي غرفة الاستقبال الرئيسة في القصر عدة صور لـ»عبد النُّور« في مناسبات مختلفة وفي مراحل عمرية متباينة، وتُبيِّن الصور المتعددة للزعيم سعد زغلول داخل الغرفة مدى التعلق الوجداني لـ»عبد النُّور« بزعيم الحركة الوطنية، ومن أندرها لوحة مرسومة لسعد زغلول مؤرَّخة في سنة 1920 ويظهر مرتديًا الزّي الشرفي، وتضم فوتغرافيا غرفة الاستقبال صورة نادرة أيضًا لمكرم عبيد سكرتير الوفد المصري يجلس على مكتبه وخلفه مجسم يصوِّر الزعيم سعد زغلول! 

التفاصيل في غرفة الاستقبال الرئيسة كثيرة؛ وهي تحرض على البقاء داخلها لاستكشافها، ولكن ماذا عن غرفة الشيخ »العدوي«؟! 

سألت وكيل المُلّاك عنها ونحن على باب القصر؛ فقد كنت محملًا بمعلومات عن حفلات تلاوة الذكر الحكيم التي كانت تُقام في القصر، وقد خمنت أن غرفة »الشيخ« في الطابق الأول. 

صَعِدنا درج السلم المُؤدي للطابق الثاني بسرعة، وهنا ظهرت شخشيخة القصر ذات الأضلاع المثمنة التي تتخذ الشكل الهرمي، وتتألف من ثلاث طبقات من الخشب ذات نوافذ خشبية مفرغة ويغطيها الزجاج الملون، أُلحِقت هذه الوحدة بشكل متكرر بآخر طابق في قصور وأبنية النُّخب المجتمعية في ذلك الوقت، وكان الغرض منها الإضاءة والتهوية الطبيعة للمنشأة. 

في الطابق الثاني فتح المحامي محسن وديع باب غرفة، وكأنه يفتح خزانة قديمة، وقال: إنها غرفة الشيخ »العدوي«! كان هناك سريران من النحاس في غرفة النوم هذه، أشار الرجل أن أحدهما كان المفضل لـ »سعدزغلول«، وكان سريرًا مغايرًا لباقي الأسِرَّة النحاسية التي تتناثر في غرف الطابق الثاني، بدا وكأنه تحفة فنية منقولة، وعلى ما يبدو فإن هذه الغرفة كانت مخصصة لإقامة كبار الضيوف الوافدين إلى القصر، والشيخ محمد حسنين العدوي كان وكيلًا للجامع الأزهر، وهو والد الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية الأسبق، ومن الواضح أن الشيخ »العدوي« المولود ببني عديّ بمحافظة أسيوط قد ارتبط بصداقة مع فخري عبد النُّور، حتى توفي الشيخ سنة 1936. 

أسس فخري عبد النُّور لمبدأ الوحدة الوطنية منذ بدء عمله العام والسياسي، وكان عنصرًا مهمًّا في إنشاء الجماعة الوطنية على أساس وطيد، وهي أحد منجزات الحركة الوطنية المصرية التي كان »عبد النُّور«، أحد أهم روادها، فضلًا عن كونه من مؤسسي الطبقة الثالثة من الوفد المصري التي تأسست في أغسطس 1922 عقب الحكم بالإعدام على أعضاء الطبقة الثانية. 

في جرجا تقول الروايات الشفاهية: إن الرجل كان ينتخبه المسلمون قبل الأقباط نائبًا عنهم في البرلمان حتى وفاته في صيف 1942 في البرلمان، وكان حريصًا على التبرع بأموال لإنشاء دور العبادة، وكذلك مخصصات مالية لأضرحة الأولياء يسمونها هناك »نفحات«. 

من خلال صالة الطابق الثاني المتسعة أخذنا في التنقل ولم تتركنا الدهشة، من غرفة إلى أخرى، مرورًا بقاعة الطعام الرئيسة في القصر ذي الرسوم والألوان التي ما زالت زاهية وتتماهى مع الغرض من القاعة، حرص الفنانون على إبراز عناصر فنية على الجدران كالفواكه وأداوت المائدة وغيرها. 

كنَّا مُجبَرين على إطالة البقاء في غرفة استقبال الضيوف الثانية في القصر، الموجودة في الطابق الثاني؛ فقد زخرت بالقطع والأثاث القديم والفوتغرافيا أيضًا! وهناك اكتشفنا أن شيخ الإسلام سيدي الإمام أبا الوفاء الشرقاوي له أثر في سراي »عبد النُّور«، كانت صورة للإمام يظهر فيها مبتسمًا تجاور صورة فخري عبد النُّور على جدارية ملونة باللون الأخضر الفاتح! 

في أحد أيام النصف الثاني من شهر أكتوبر سنة 1921، وبينما كان القطب الصوفي الإمام »الشرقاوي« يعقد مجلسه في السراي والساحة الملحقة بها شمال قنا، وصلته أنباء من جرجا، مفادها أن السلطات المحلية مدفوعة من الإدارة البريطانية، حرضت بعض الأشقياء على إحراق قصر فخري عبد النُّور، وإتلاف حفل الاستقبال ومظاهره المُعدة لاستقبال الرحلة النيلية للزعيم سعد زغلول والمارة على مدينة جرجا لزيارة قصر »عبد النور« لتناول مأدبة غذاء والمبيت ربَّما. 

تحرك الإمام »الشرقاوي« رفقة خادمه إلى جرجا، ولمّا وصل إلى القصر وجد أن السلطات قد أغلقته وسدت جميع المنافذ المؤدية إليه! أمر الإمام أتباعه بإزاحة ما يعوقه عن الدخول وفتح قصر »عبد النُّور« ودخله وجلس فيه، ولما سمع أهالي جرجا بما فعله الإمام توافدوا على القصر للترحيب به فاكتظت الحديقة بهم، وأرسل الإمام تلغرافًا إلى فخري عبد النُّور وهو قادم على الباخرة نوبيا رفقة سعد زغلول ومصطفى النحاس يقول: إنه ينتظرهم في القصر! 

وجدنا أثر شيوخ الإسلام في الطبقة العلوية من قصر »عبد النُّور« المخصصة لأهل البيت بالضرورة، ربما يُوضح ذلك مكانة الإمامين في وجدان مؤسس القصر ومالكه. 

قضينا وقتًا طويلًا، وأرهقنا تتبع التفاصيل المعمارية والفنية والشخوص والأحداث التاريخية بواسطة الفوتغرافيا القديمة، في ذلك المكان النادر الذي ما زال يحتفظ بعبقه وتفاصيله القديمة بشكل مُذهل، ولم نكن نريد الرحيل. 

يُؤسس بقاء هذا النموذج النادر من قصور النخبة المصرية دون تغيير أو إتلاف، للفكرة القائلة: إن التراث هو إرث لا يجب التفريط فيه، وبالضرورة لا بد أن يحظى بعناية من يملكونه، أعملت ذرية فخري عبد النُّور عبر أجيالها -وعلى رأسها الاقتصادي والسياسي منير عبد النور وزير السياحة والصناعة الأسبق- مبدأ الإبقاء على الإرث الحضاري، وحفظت ذلك التراث الإنساني من الفناء؛ ليبقي مَزارًا وأثرًا.