الحركة النسوية المصرية
شريف إمامرحلة النسوية من الفكرة إلى المنهج
2024.06.01
مصدر الصورة : ويكبيديا
رحلة النسوية من الفكرة إلى المنهج
تنطلق الحركة النسوية من فكرة مركزية، هي وجود اضطهاد للمرأة، تُخلق في أحشاء الإنسانية عبر أزمنة تاريخية متعاقبة حتى غدا حقيقة وجودية، وهو في جوهره ليس وضعًا طبيعيًّا وإنما هو مفروض اجتماعيًّا، لذا فإنه من الممكن تفكيكه عبر وعي نسوي تتحالف فيه النساء ضد هذا الواقع، مقدمة رؤية بديلة للنظام الاجتماعي الأبوي المتوارث. تلك الرؤية التي قادت إلى نشأة الكتابة النسوية في مجالات اللغة والأدب والتاريخ وعلم الاجتماع وغيرها، وارتبط هذا النسق من الكتابة بسياق أكثر عمومية وهو دراسات النوع. فبالنسبة إلى هؤلاء هناك فرق بين الجنس والنوع، فالأول له دلالة بيولوجية أما الآخر فإنه ثقافي الدلالة. فالأنثى Female هي مسألة جنس، بينما الأنوثة Femininity هي مسألة ثقافة، فالقالب الثقافي والاجتماعي الذى يُصمم للبنات والأولاد منذ النشأة الأولى هو ما يحدد النوع الاجتماعي (الجندرة)، فكل مجتمع يُحول تدريجيًّا الأنثى أو الذكر إلى امرأة أو رجل، ومن ثم إلى فهم للأنوثة أو الذكورة، وذلك عبر مستويات مختلفة من أنماط السلوك، والأدوار، والمسؤوليات، والحقوق والتوقعات[1].
إن النسوية من حيث كونها فكرة جالت في الأذهان وعبرت عنها الأقلام المهتمة، قديمة قدم التاريخ الحديث، عندما طرحت كريستين دى بيزان Christine de Pizan أوائل القرن الخامس عشر عملها "مدينة السيدات" Le Livre de la cité des dames، الذي كان بمثابة مراجعة للتاريخ بتسليط الضوء على بطولات النساء المعروفات في التاريخ الإنساني، وأتبعته بكتاب "ذخر مدينة السيدات" Le trésor de la cité des dames، المعروف أيضًا بكتاب "الفضائل الثلاث"[2]. لكن النسوية كحركة يمكن أن نتتبع خطها منذ منتصف القرن التاسع عشر، حيث انعقد أول مؤتمر لحقوق المرأة في نيويورك عام 1848 وانطلقت في بريطانيا حركة الدفاع عن حقوق المرأة السياسية وفى القلب منها حق التصويت[3]. وما إن اندلعت الحرب العالمية الأولى، حتى أخذت في خنادقها الرجال من أنحاء أوروبا، واضطرت المرأة إلى النزول إلى مواقع العمل التي خلت منهم، فيما يمكن اعتباره حسمًا للجدل في الفكر الغربي، وظفرت المرأة بحقوق المواطنة في إنجلترا ونيوزيلندا والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.. إلخ[4]. أما النسوية كمنهج نقدي فإن عمره لا يتعدى نصف قرن، عندما اتخذت النسوية الغربية -خصوصًا الفرنسية- مسارات عديدة، منها ما هو سياسي، ومنها ما هو اجتماعي ومنها ما هو أدبي، وهدفت إلى نقل المرأة من الهامش إلى المتن، وإلغاء قاعدة المفاضلة التي أدخلتها هذا الهامش مرحلة زمنية طويلة بوصفها تابعة للرجل، عبر تقديم سلسلة متصلة من الكتابات النقدية التي تحاول إظهار المرأة الغربية باعتبارها جزءًا أصيلًا في الثقافة الغربية، لا يمكن أن تكتمل هذه الثقافة إلا بالاهتمام بالمرأة على القدر نفسه الذى تهتم به بالرجل[5]. لقد أعادت النسوية قراءة فرويد الذي تراه أحد المسؤولين الرئيسيين عن تكريس مفاهيم خاطئة حول هوية المرأة النفسية، كما أعادت قراءة التاريخ الغربي نفسه باحثة فيه عن وضعية المرأة، وفحصت اللغة بوصفها الأداة الأكثر فعالية في تكريس الوضعية المتدنية للمرأة، وبذلك غدت النسوية منهجًا نقديًّا قادرًا على إمداد كل المجالات المعرفية بأسئلة جديدة وأدوات بحثية مختلفة[6]. وبحلول سبعينيات القرن العشرين، نجحت عالِمة الاجتماع البريطانية آن أوكلي Ann Oakley في إدخال مصطلح (Gender) للمرة الأولى في حقل الدراسات الاجتماعية في دراستها الشهيرة المعنونة: Sex, Gender and Society. أرادت أوكلي أن تستخدم كلمة Gender مُعادلًا موضوعيًّا لاصطلاح Sex بوصفه تحديدًا بيولوجيًّا في سياق العلوم الطبيعية[7].
لذا كان من الطبيعي أن يكون التاريخ فضاء واسعًا للدارسات النسوية، بل أداة فعالة لإنتاج الخطاب النسوي الرافض للنموذج العقلاني الذكوري للإنسان الغربي. ويمكن أن نُرجع الفضل في إنتاج منهج نسوي لتفسير التاريخ -لا يقف عند حدود التأكيد على أن النساء لهن تاريخ، أو إثبات أن النساء شاركن في الانقلابات السياسية الرئيسة في الحضارة الغربية، بل يضع نسقًا تحليليًّا يرتكز على تفاعل النسوية مع نظريات ما بعد البنيوية وكتابات ميشيل فوكو وجاك ديريدا- إلى جوان والاش سكوت Joan Wallach Scott عندما قدمت مقالتها: "النوع: فئة مفيدة للتحليل التاريخي"، فبالنسبة إلى سكوت فإن مؤرخات النسوية ظللن يقدمن تصوراتهن ضمن الأطر التقليدية للعلوم الاجتماعية، مستخدمات صياغات قديمة العهد تقوم على نمطين، أحدهما وصفى يكتفى بأن يشير إلى وجود ظواهر أو حقائق معينة، دون أن يشرع في تفسيرها أو شرحها أو وضع مسببات لها، وآخر سببي يسعى إلى فهم طبيعة الظواهر وأسباب اتخاذها الشكل الذي هي عليه الآن، لكن مع تعميمات تتسم بالاختزال أو التبسيط الزائد، الأمر الذى يعنى إضعاف الحس التاريخي من حيث كونه معنيًّا بالطابع المعقد للسببية الاجتماعية social causation. تعتقد سكوت أن الطريق لتصحيح هذا المسار يبدأ من استخدام القائمين على الدراسات النسوية مصطلح "النوع" عوضًا عن "النساء" في دراستهم، فبالرغم من هذا الأمر قد ينطوي على نوع من الإبهام إلا أنه يشير إلى الجدية العلمية للعمل، حيث يتمتع "النوع" بوقع أكثر حيادية وموضوعية من كلمة "النساء" إذ يجد لنفسه مكانًا داخل مجموعة المصطلحات الخاصة بالعلوم الاجتماعية وبالتالي يفصل نفسه عن السياسية النسوية -التي يفترض أنها حادة النغمة- وفي هذا الاستعمال لا يبدو "النوع" حاملًا معه مقولة لازمة عن اللامساواة، ولا يحدد بالاسم الطرف المهضوم حقه، وبذلك يسمح تاريخ النوع بتقديم تاريخ النساء دون أن يقوم بتسميتهن، وبالتالي يبدو وكأنه لا يشكل تهديدًا خطيرًا، بل يكسبه شرعية أكاديمية. غير أن هذا ليس إلا وجهًا واحدًا، إذ إن "النوع" بصفته بديل "النساء" يُستخدم أيضًا في الإشارة إلى أن المعلومات عن النساء هي بالضرورة معلومات عن الرجال، ذلك لأن دراسة أحدهما تقتضي ضمنًا دراسة الآخر[8].
ويحمل هذا الاستخدام إصرارًا على أن عالم النساء إنما هو جزء من عالم الرجال، تكوَّن داخله وبواسطته، كما يرفض الجدوى التأويلية الموجودة في فكرة حيزين منفصلين، ملحًّا على أن القيام بدراسة النساء بشكل منعزل إنما يحافظ على استمرار الفكرة الخيالية عن أن تجربة أحد الجنسين ليس لها علاقة بالجنس الآخر. إن المنهج الجديد يستند إلى فرضية غياب الموضوعية في الكتابة التاريخية الذكورية، وأن الرواية التاريخية، أيّ رواية، هي بالضرورة تمثيل معبر عن رؤية أو وجهة نظر، وأن هذه الرؤية يتم التعبير عنها من خلال اللغة المحملة بالدلالات والمعاني المضمرة وفقَا لسياقات التعبير والتلقي. وعلى هذا الأساس تقترب الرواية التاريخية من النص الأدبي، ونقرأ المصادر التاريخية مستخدمين أدوات ومناهج التحليل الأدبي لكي نستكشف المعاني المضمرة والدلالات المتعمدة للنص[9].
لم يمضِ على طرح سكوت وقت طويل حتى قدمت الفيلسوفة جوديث بتلر Judith Butler نسخًا بنيوية أخرى لنظرية النوع، وتبعتها أخريات، مثل دنيس ريلي Denise Riley. بل إن النظريات الحديثة في علوم الاجتماع بدأت تؤثر في نظرية النوع، فمثلًا غيَّر منظرو ما بعد الكولونيالية، بقيادة غاياتري سبيفاك Gayatri Spivak، بعض تصوراتهم من منطلق فرضيات نظرية النوع، فتساءلت سبيفاك عمَّا إذا كان يمكن "للتابع" أو للمستعمَر، أو الذات المسيطَر عليها "أن تتكلم". إن مصطلح "التابع" له معنى خاص عند أولئك الذين يكونون نساء وذواتًا استعمارية في آن واحد. ومن نظرية ما بعد الكولونيالية، بدأ المؤرخون الاجتماعيون ينظرون إلى النوع كمنتَج للأنظمة الإمبريالية، تحديدًا باعتباره قد أُنتِج في سياق الهيمنة الغربية والمقاومة أو الخضوع غير الغربيين، أو كليهما[10].
على كلٍّ، فقد حطت الأفكار النسوية الغربية رحالها في العالم العربي مبكرًا، وأدرج مفكروه بعض تصوراتهم في أطاريحهم النهضوية، ونظروا سريعًا إلى العلاقة بين حصول المرأة على حقوقها ونهضة الأمة، ظهر ذلك عند رفاعة طهطاوي، ومحمد عبده، وبطرس البستاني، وزينب فواز، وسلامة موسى، وقاسم أمين، والظاهر الحداد، وغيرهم. وتفاوتت خطاباتهم بين مؤيد للاجتهاد والتأويل، وبين مطالب للتماهي الكامل في الحضارة الغربية، فنشطت الحركة الفكرية، وازدهرت، وطرحت القضايا النسوية للمناقشة والتداول[11]. وفى أواخر القرن التاسع عشر تبلورت في مصر حركة تحرير المرأة، مدفوعة بظهور عديد من الكتابات النسائية التي تدعو إلى نهضة المرأة المصرية، ومن بين هذه الكتابات: "معرض الحسناء في تراجم مشاهير النساء" للمؤلفة مريم النحاس عام 1879م، و"نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال" عام 1887م لعائشة التيمورية، وهو عبارة عن رواية أدبية ذات طابع ديني تعليمي، كما نشرت زينب فواز كتاب "حسن العواقب" عام 1893م وهو يحكي سيرتها الذاتية وفي العام نفسه نشرت كتاب "الدر المنثور في طبقات ربات الخدور" تحدثت فيه عن سير النساء وإنجازاتهن[12]. توجت كل هذه الإرهاصات بوضع قاسم أمين كتاب تحرير المرأة عام 1899، وظهر مصطلح النّسوية عام 1909م، في كتاب "نسائيات" لملك حفني ناصف (باحثة البادية)، ووجدت هذه الحركة الشابة فرصتها في التعبير عن نفسها مع قيام ثورة 1919.
[1] أحمد صبرة ، الدراسات النسوية: أصول نظرية المصدر: سياقات اللغة والدراسات البينية، Natural Sciences Publishing، عدد 2، مج 3، أغسطس 2018، ص ص 8، 9.
[2] Charity C. Willard, Christine de Pizan: Her Life and Works, New York, 1984, p. 135.
[3] Judith Wellman, The Road to Seneca Falls: Elizabeth Cady Stanton and the First Women's Rights Convention, University of Illinois Press, 2004, p. 189.
[4] ليندا جين شيفرد، أنثوية العلم: العلم من منظور الفلسفة النسوية، ترجمة: يمنى طريف الخولي، سلسلة عالم المعرفة، العدد 714، الكويت، 2004، ص 14.
[5] محمد عبدالمطلب، بلاغة السرد النسوي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2007، ص 29.
[6] أحمد صبرة ، الدراسات النسوية: أصول نظرية المصدر: سياقات اللغة والدراسات البينية، ص 10
[7] Ann Oakley, Sex, gender and society, London, 1972.
[8] جون سكوت، النوع : مقولة مفيدة في التحليل التاريخي، بحث ضمن كتاب: النسوية والدراسات التاريخية، ترجمة عبير عباس، مؤسسة المرأة والذاكرة، القاهرة، 2015، ص ص 37، 40.
[9] هدى الصدة، النسوية والتاريخ: مقالات مختارة في دراسات النوع، مقدمة كتاب: النسوية والدراسات التاريخية، ص 11.
[10] بوني ج. سميث، نظرية الجندر، ترجمة زينب صلاح، مركز باحثات لدراسات المرأة، 2000.
ترجمات: نظرية الجندر - مركز باحثات لدراسات المرأة (bahethat.com)
[11] للمزيد راجع إجلال خليفة، الحركة النسائية الحديثة: قصة المرأة العربية على ارض مصر، المطبعة العربية الحديثة، القاهرة، 1973.
[12] هالة شكر الله وآخرون، المرأة في المنظمات الأهلية، مصر أنموذجًا، بحث مقدم من مركز دراسات المرأة الجديدة، مصر، 1998، ص 20.