عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

فنون

زينب أبو المجد

صعيد مصر ودراما التمرد

2025.03.29

مصدر الصورة : آخرون

صعيد مصر ودراما التمرد

 

في شهر رمضان من كل عام، تصل المسلسلات التلفزيونية المصرية إلى موسم الذروة. إذ يتم عرض مسلسل واحد على الأقل عن صعيد مصر ويتابعه ملايين المشاهدين في جميع أنحاء البلاد. عادة ما تتضمن هذه الدراما الشعبية بطلًا من الصعيد شابًّا فقيرًا صالحًا، وتحوله -رغما عنه- إلى الجريمة لمواجهة الفساد والقمع. من خلال التجسيد العاطفي للمجرمين الوسيمين من ذوي البشرة السمراء، يحظى أبطال هذه المسلسلات دائمًا بالتعاطف العميق من معجبيهم وهم يتمردون على الظروف المؤسفة ومقاومة السلطات المحلية والنخب الغنية و/أو ضباط الشرطة الفاسدين. "ذئاب الجبل" هو أحد أكثر المسلسلات شهرة وتميزًا، وقد عُرض عام 1992. يروي المسلسل قصة "بدري"، وهو شاب من محافظة قنا، يتعرض لظلم الشرطة، ثم يهرب إلى الجبال على الضفة الغربية لنهر النيل للاختباء، وينضم إلى عصابة من قطاع الطرق "مطاريد الجبل". يساعده المطاريد الشرفاء حتى يُثبت براءته، ليجتمع بأخته المفقودة، ويتزوج حبيبته[1]. بالنسبة إلى عديد من المشاهدين في أرجاء البلاد، يجسد بدري وغيره من الخارجين على القانون مشهد المقاومة الوحيدة التي يخوضون غمارها في حياتهم المكبوتة، حتى وإن كان ذلك افتراضيًّا على شاشات التلفزيون. 

ربما تكون الدراما هي المكان الوحيد الذي يمكن أن يعبر فيه الصعيد عن نفسه في مصر في الوقت الحالي. خلال قرنين من الزمان، عانى الجزء الجنوبي من البلاد من التهميش السياسي والتخلف الاقتصادي. فمنذ إنشاء "دولة حديثة" ذات حكومة مركزية في القاهرة في أوائل القرن التاسع عشر، تجاهلت النخب الحاكمة المتعددة سكان صعيد مصر وتم تهميشهم، سواء في ظل الأسرة العلوية التي أسسها محمد علي باشا، أو أثناء فترة الاستعمار البريطاني، أو في دولة ما بعد الاستعمار. ومع ذلك -وبسبب عقود طويلة من التهميش- فغالبًا ما تحدث سكان الصعيد -الذين يعانون من الإهمال- وبنبرة متمردة. توثق عديد من السجلات الحكومية المحفوظة في الأرشيف الوطني المصري (دار الوثائق القومية) كيف لجأ الرجال والنساء من الطبقة الدنيا والمتوسطة في القرى والبلدات الصغيرة في صعيد مصر إما إلى القيام بثورات عارمة أو الانخراط في أعمال مقاومة معتادة تضمنت أحيانًا جرائم صغيرة موجهة ضد مضطهديهم المحليين وضد الدولة.

ولم يكن المسلسل التلفزيوني الشهير "ذئاب الجبل" سوى تجسيد درامي لواقع قائم بالفعل. يركز بحثي هذا في السجلات الأرشيفية لـمحافظة قنا، التي كانت عاصمة لدولة مستقلة في الجنوب لعدة قرون قبل أن تندمج مع الدولة القومية المصرية الحديثة[2]. وسوف تركز هذه المقالة في قنا لإثبات قدرة المهمشين على التحدث بطرق غير تقليدية فشل التاريخ التقليدي في تأريخها.

يفترض التأريخ السائد عن مصر بصفة عامة -سواء باللغة العربية أو بلغات أجنبية- أن الصعيد كان في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين يعد جزءًا من الدولة القومية، حيث قادت البرجوازية في شمال البلاد عملية التحديث ومناهضة الاستعمار. وقد أدت هيمنة التوجهات القومية والنخبوية والمتمركزة حول القاهرة في تدوين تاريخ مصر إلى جعل سرديات الصعيد وجنوب البلاد -مثل محافظة قنا- منفصلة عن التاريخ الأشمل للبلاد. ولم يحاول سوى عدد قليل من المؤرخين إعادة سرد تاريخ الصعيد واستعادة أصوات أبنائه المهمشين، وأبرزهم بيتر جران ومارتينا ريكر[3].

خلال العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث، وقبل وقت طويل من تأسيس الدولة الحديثة، عُرفت محافظة قنا بكونها مركزًا حيويًّا لتجارة المنتجات الزراعية والصناعة وتجارة المسافات البعيدة. حيث كانت المحافظة موطنًا لأثرياء المسلمين والأقباط المسيحيين وكبار ملاك الأراضي وعلماء الحديث والحرفيين[4]. ويعود الفضل في ازدهار قنا اقتصاديًّا ومن ثم سياسيًّا خلال تلك الفترة إلى كونها جزءًا لا يتجزأ مما يطلق عليه عديد من المؤرخين الأجانب "الاقتصاد العالمي للمحيط الهندي". فقد ضمت الشبكات الاقتصادية العالمية في المحيط الهندي آنذاك البحر الأحمر وبحر العرب والمحيط الهندي بأكمله، وشكلت المحرك الرئيسي للتجارة الأفرو-آسيوية، وذلك قبل ظهور النظام العالمي الحديث الذي تقوده أوروبا. مَثَّل صعيد مصر، وخاصة قنا وموانئ البحر الأحمر والنيل، نقطة التقاء مركزية للأسواق الإقليمية التي شملت مناطق، مثل: الحجاز واليمن والهند والسودان والحبشة والمغرب[5]. وقد سمح الازدهار الاقتصادي في صعيد مصر بإقامة دولة مستقلة في الجنوب كانت عاصمتها دائمًا مدينة تقع على النيل داخل حدود محافظة قنا. وسيطرت قبيلة الهوارة، وهي قبيلة عربية مرموقة خلال العصر المملوكي بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر على ملكية الأراضي وتجارة المسافات البعيدة وصناعة السكر في صعيد مصر، ونجحت في تأسيس سلالة سأ  أقوية في الجنوب استمرت في الحكم خلال العصر العثماني[6]. وصلت هذه الدولة إلى مرحلة الاستقرار في القرن الثامن عشر مع وجود نظام حكم عادل، يكاد يرقى إلى مستوى الجمهورية المبكرة، كما أكد المراقبون الأوروبيون المعاصرون[7].

عندما غزت الإمبراطورية العثمانية مصر في القرن السادس عشر، لم تقُم باحتلال جنوبها، بل أبرمت معاهدات سلام مع زعماء قبائل الهَوَّارة، تاركة أبناء السلالة الأصلية في السلطة مقابل جزية سنوية. وخلال ثلاثة قرون من حكم العثمانيين لمصر، قُسمت البلاد بين نظام مملوكي عسكري في الشمال، وعاصمته القاهرة، ونظام قبلي مدني في الجنوب، وعاصمته قنا. وسُمي النظام الجنوبي رسميًّا في سجلات الإمبراطورية العثمانية بـ"ولاية الصعيد"، وكان تابعًا للسلطان في إسطنبول مباشرة ومستقلًّا إداريًّا عن القاهرة. يعد شيخ العرب همَّام بن يوسف الهواري آخر حاكم أسطوري لهذه الولاية، وقد تولى الحكم بشكل مستمر من عشرينيات القرن الثامن عشر حتى وفاته عام 1769. فرض همام سيطرته على معظم أراضي الصعيد من خلال نظام ملكية الأراضي الزراعية العثماني (الالتزام)، ووسّع نطاق حقوق الملكية والإيجار لتشمل الفلاحين والأقباط. وتُظهر سجلات المحاكم الشرعية وغيرها من الوثائق الأرشيفية التي أصدرتها دولته أنه عامل رعاياه بدرجة عالية من العدل، ومارس قدرًا من المساواة للأقلية القبطية الكبيرة في الجنوب[8]. وقد وصف ضباط الحملة الفرنسية التي احتلت مصر في نهاية تسعينيات القرن الثامن عشر دولة همام بأنها نموذج يحتذى به في إقامة حكومة "وطنية" و"عادلة" في مصر على غرار الجمهورية الفرنسية[9]. كما وصف رفاعة الطهطاوي، المفكر المصري المعروف الذي درس في فرنسا في أوائل عشرينيات القرن التاسع عشر وترجم القانون المدني الفرنسي إلى العربية، من بين أعمال أخرى، دولة همام بالجمهورية الالتزامية أو الجمهورية القائمة على ضريبة الالتزام[10].

بمجرد تولي محمد علي باشا الحكم في مصر عام 1805، أرسل ابنه الأكبر، القائد العسكري إبراهيم باشا -المعروف بقسوته- لغزو صعيد مصر وتفكيك دولته التي تمتعت بالسيادة لعدة قرون. شن إبراهيم حربًا ضروسًا لمدة ست سنوات ضد سكان الجنوب الصامد لتحقيق هذه المهمة الصعبة. وانتصر في آخر معاركه الحاسمة في محافظة قنا عام 1811. ثم تم تعيينه واليًا على ولاية الصعيد وأقام في قنا، وسرعان ما فرض احتكار القاهرة على التجارة الزراعية للمسافات البعيدة وموارد التصنيع الغنية في صعيد مصر. سرد الجبرتي -المؤرخ القاهري المعاصر في القرن الثامن عشر- عديدًا من الروايات المروعة عن إدارة إبراهيم الاقتصادية للمنطقة، مؤكدًا أنه:

"فعل بهم فعل التتار عندما جالوا بالأقطار وأذل أعزة أهلها وأساء أسوأ السوء معهم في فعله فيسلب نعمهم وأموالهم ويأخذ أبقارهم وأغنامهم ويحاسبهم على ما كان في تصرفهم واستهلكوه أو يحتج عليهم بذنب لم يقترفوه ثم يفرض عليهم المغارم الهائلة والمقادير من الأموال التي ليست أيديهم إليها طائلة ويلزمهم بتحصيلها وغلاقها وتعجيلها فتعجز أيديهم عن الإتمام"[11].

حاول محمد علي باشا دمج الصعيد بالكامل في حكومته المركزية والحديثة في مقرها بالقاهرة، وذلك من خلال قوانين جبرية جديدة لملكية الأراضي والأنظمة الصناعية. وتم إخضاع الفلاحين والعمال من الطبقة الدنيا في محافظة قنا لاحتكارات الباشا الزراعية والصناعية واستخدمهم كعمال سخرة في المشاريع العامة أو في المزارع المملوكة للدولة[12].

لم يبقَ الصعيد صامتًا لفترة طويلة في مواجهة وحشية الباشا. فبعد عقد واحد فقط من احتلاله، بين عامي 1820 و1824، اندلعت سلسلة من الثورات العارمة غير المسبوقة في محافظة قنا. وطوال فترة حكم محمد علي الطويلة الصارمة التي امتدت لأربعين عامًا، شهدت مصر ثورات لم تشهد مثلها من قبل، سواء في شمال البلاد أو جنوبها. قاد أحمد الصلاح، وهو شيخ عربي، أول وأكبر ثورة على الإطلاق، فحشد نحو 40,000 من أتباعه من أجل قضيته. ضم المتمردون تحت قيادته صغار الفلاحين والعمال الموسميين وشيوخ القبائل العربية الأخرى الذين حملوا عديدًا من المظالم ضد الدولة. برز الصلاح -من مسقط رأسه في السليمية- كمتصوف ومخلص وأعلن الحرب المقدسة ضد الباشا. ثم استولى على خزانة الدولة المحلية ومخازنها واستأجر موظفين لحكم قنا لمدة شهرين. وسرعان ما أرسل محمد علي قواته من القاهرة لإنهاء النظام الانفصالي، فأحرق جنود جيشه القرى ودمروا المنازل وشردوا النساء والأطفال وأبادوا المتمردين.

فرّ الصلاح إلى الحجاز، لكن التمرد تصاعد مرة أخرى في محافظة قنا بأشكال أخرى كثيرة: فقد تحول إلى حالة من المقاومة اليومية، ناصرها الرجال والنساء من المهمشين، وانضم إليهم الخارجون على القانون. فرّ الفلاحون من المزارع المملوكة للدولة ومواقع العمل بالسخرة التي أنشأها الباشا، وامتنعوا عن أداء الضرائب، وهربوا من الأراضي التي أجبرتهم الدولة على زراعتها لصالح احتكاراتها الزراعية. وهجر العمال في مصانع الباشا الحديثة خطوط الإنتاج. وأطلقت الدولة على هؤلاء اسم المتسحبين أي "الهاربين". ومن بين هؤلاء الهاربين، ظهرت في نهاية المطاف أكبر جماعات المقاومة وأكثرها جرأة: قطاع الطرق أو "الفلاتية" الذين شكلوا عصابات صغيرة في كل قرية وبلدة في المحافظة تقريبًا لمهاجمة موظفي الحكومة والإخلال بأمن المحافظة. تعد الجبال المحيطة بقنا على طول ضفتي النيل الشرقية والغربية من أبرز الخصائص الطوبوغرافية للمنطقة. فحيث تنتهي القرى، تبدأ الجبال، وفي هذه الجبال وجد قطاع الطرق "الفلاتية" ملاذًا لهم وخططوا لعملياتهم.

وعلى مدار العقود القليلة التالية، ظل الصعيد ساكنًا في عهد خلفاء أسرة الباشا الحاكمة. أدى التوسع الإمبريالي البريطاني في منتصف القرن التاسع عشر إلى تفكيك النظام الاقتصادي العالمي القديم في المحيط الهندي، الذي كان الصعيد جزءًا لا يتجزأ منه لقرون وتم استبدال به اقتصادًا عالميًّا جديدًا تقوده المراكز الرأسمالية الأوروبية. ومع اندماج مصر في هذا النظام الحديث الجديد، حوّل خديوي القاهرة مركز البلاد الاقتصادي إلى الشمال المنتج للقطن، أي الدلتا، لاستيعاب الطلب البريطاني. وبالإضافة إلى ذلك، فقد تضرر فلاحو قنا وعمالها من اتفاقيات التجارة الحرة التي أبرمها الخديوي مع الرأسماليين الأجانب، ما أجبرهم على فتح أسواقهم المحلية أمام البواخر الأوروبية التي كانت تأتي لشراء منتجاتهم الزراعية بأسعار زهيدة. واجتاح القاهريون والمستوطنون الأجانب محافظة قنا، وطوّروا المزارع وشكلوا نخبة جديدة من ملاك الأراضي، ما أدى إلى نزع ملكية عديد من الفلاحين وتحولهم إلى عمال موسميين[13].

وبحلول أوائل ستينيات القرن التاسع عشر، عاد الجنوب المهمش اقتصاديًّا والمضطهد سياسيًّا إلى التعبير عن تمرده مرة أخرى. وبلغ السخط المتأجج ذروته في ثورة عارمة أخرى اندلعت في محافظة قنا عام 1864. فقد تمكن شيخ صوفي يدعى أحمد الطيب -وهو ابن قائد الثورة المذكورة أعلاه في عشرينيات القرن التاسع عشر- من حشد عشرات الآلاف من الأتباع في محاولة للإطاحة بالحكومة. وعلى غرار والده، لجأ إلى الجبال حيث انضم إلى قطاع الطرق "الفلاتية" لشن هجمات ضد موظفي الدولة والمراكب النيلية المملوكة للتجار الأجانب والمزارع والمطاحن التابعة لكبار ملاك الأراضي المحليين. وقد تجاهل مؤرخو الدولة هذه الثورة أو ذكروها بإيجاز فقط باعتبارها عملًا من أعمال العصيان التي تحظرها الشريعة[14]. ولكن لحسن الحظ، فقد سجلت هذه الثورة رحالة بريطانية مقيمة في الأقصر، وهي مدينة في محافظة قنا، وكتبت عنها باستفاضة في رسائلها إلى الوطن. وصفت الليدي لوسي داف جوردون (التي توفيت عام 1869) هذه الثورة بأنها "ثورة شيوعية"، لأن الثوار طالبوا بجرأة بإعادة توزيع الثروة[15]. ومرة أخرى سحقت القوات جيدة التسليح القادمة من القاهرة المتمردين، ونالوا عقابًا قاسيًا كرادع لهم. ومع ذلك، فقد استمرت الثورة على يد الفلاتية في الجبال، الذين كثفوا هجماتهم على موظفي الحكومة الموسرين والمستوطنين الأثرياء في جميع أنحاء المحافظة[16].

وبعد الاحتلال البريطاني لمصر في ثمانينيات القرن التاسع عشر، استمر تهميش الصعيد، كما استمر التمرد. وعملت الإدارة الاستعمارية مع النخبة الحاكمة في القاهرة على صياغة دولة قومية، وتوحيد الشمال والجنوب في سوق رأسمالية واحدة. وقد وصف بنديكت أندرسون في كتابه "المجتمعات المُتخيلة" العملية التي قامت بها الرأسمالية المحلية لاختراع هوية وطنية في السياقات الاستعمارية، وصفًا جيدًا. ويساعد تحليله على تفسير العلاقات بين شمال مصر وجنوبها في ظل الاحتلال البريطاني. وجرت محاولة أخرى لدمج الصعيد في دولة مركزية عاصمتها القاهرة. هذه المرة من خلال إقامة سلسلة من المشروعات الرأسمالية الضخمة، بما في ذلك بنك زراعي وشركة سكر كبيرة مملوكة لمساهمين أجانب. وكان لذلك تأثير في حياة الآلاف من السكان المحليين. وتغلغلت هذه المشاريع بعمق في القرى والبلدات الصغيرة في محافظة قنا. كما تسببت هذه المشروعات في عواقب أخرى، مثل طرد الفلاحين المثقلين بالديون من أراضيهم، ولم يتم حصر الوفيات بين العمالة زهيدة الأجر في مواقع البناء أو المصانع الحديثة. كما أنها فضلت إمداد سكان المحافظة الجدد والأثرياء بالخدمات العامة على حساب السكان الأصليين الفقراء. وأخيرًا، عندما عانت المحافظة من نقص الغذاء والافتقار إلى المياه النظيفة، انتشرت أوبئة الكوليرا والطاعون في جميع أنحاء المنطقة في تسعينيات القرن التاسع عشر. كان من الصعب أن تندلع ثورات واسعة النطاق مماثلة لتلك التي حدثت في عشرينيات وستينيات القرن التاسع عشر في ظل هذه الظروف، وأصبحت أشكال المقاومة اليومية من قبل الفئات المهمشة شائعة وغالبًا ما كانت أكثر عنفًا[17].

تصف سجلات الشرطة في كل من قنا والقاهرة في أوائل القرن العشرين زيادة ملحوظة في الأنشطة "الإجرامية" التي ارتكبها جناة عاديون أو من غير معتادي الإجرام في المحافظة. واتخذت المقاومة اليومية في هذه المرحلة عدة أشكال، مثل: مهاجمة مشايخ القرى والعمد ورفض دفع الضرائب وتخريب المباني الحكومية وتخريب المشروعات العامة. وظهرت مجموعة جديدة من الخارجين على القانون في الجبال، الذين أطلقت عليهم الحكومة اسم مطاريد الجبل، الذين حلُّوا محل قطاع الطرق الفلاتية في القرن الماضي. وانضم الفلاحون والعمال الهاربون من الضرائب الباهظة ومن السخرة إلى المطاريد، كما انضموا من قبل إلى الفلاتية. كما اتخذوا جبال المحافظة ملاذًا للاختباء والعمل، واعتمدوا التكتيكات والخطط الذكية التي اتبعها أسلافهم. وشن قطاع الطرق الجدد عمليات، مثل: الإغارة على منازل من اعتبروهم ممثلين غير شرعيين في البرلمان أو في مجالس القاهرة، أو مهاجمة دوريات الشرطة.

بين العشرينيات والأربعينيات من القرن العشرين، ظهر في قنا أكثر قطاع الطرق شهرة في التاريخ المصري. وبلغت أخبار "الخُط" المزعجة الملك فاروق وديوانه الملكي في القاهرة، وأصبح اسم "الخُط" يُطلق على كل قاطع طريق متوحش آخر ظهر في الصعيد حتى يومنا هذا. وأمر الملك قائد الشرطة الرئيسي في الصعيد "عزيز أباظة باشا" بمطاردة "الخُط". وشكل الباشا على الفور فرقة شرطة ماهرة أطلق عليها اسم "فرقة الموت"، وكلفها بإحضار رأس "الخُط". وفي إحدى الليالي، وبعد بحث مضنٍ بلا جدوى، قرر عزيز باشا الذهاب إلى السينما في إحدى دور العرض المحلية. وأثناء عرض الفيلم أشعل له رجل جالس بجانبه سيجارته بلطف. وفي صباح اليوم التالي، تلقى الباشا رسالة موقعة من "الخُط" نفسه يشكره فيها على الوقت الجميل الذي قضياه معًا في السينما. بدأ "الخُط" -واسمه محمد منصور- مسيرته الإجرامية في سن المراهقة عندما أطلق النار على ابن شيخ القرية الذي منعه من رعي أغنامه في أحد الحقول وصفعه على وجهه فأرداه قتيلًا. وبعد أن قتل تسعة عشر فردًا آخرين من عائلة الشيخ نفسه، هرب "الخُط" إلى الجبال مع جميع إخوته وشكّلوا أكثر العصابات جرأة في تاريخ الصعيد. وقد بحثت عنه الشرطة بلا هوادة، لكنه كان ينجح دائمًا في الهرب بحيله ودهائه. وعندما قُبض على الخُط أخيرًا وقُتل رميًا بالرصاص في عام 1947، التقطت صورة تذكارية لجثته ملقاة على الأرض محاطًا بعديد من الضباط الفخورين بقتله[18].

وفي عام 1954 قدمت السينما المصرية فيلمًا مستوحى من قصة "الخُط" بعنوان "الوحش" من إخراج صلاح أبو سيف. وفي عام 1969 أنتج التليفزيون المصري مسلسل بعنوان "المطاردة" مستوحى هو أيضًا من نفس القصة. وفي عام 1884، بعد مرور ما يقرب من أربعين عامًا من مصرع "الخُط"، أنتجت السينما المصرية فيلمًا مستوحى من نفس القصة، بطريقة غير متوقعة هذه المرة، بعنوان "احترس من الخط" قام ببطولته الممثل الكوميدي الشهير عادل إمام. خلال هذه العقود الأربعة، تحولت مصر إلى جمهورية مستقلة، وأصبح جمال عبدالناصر -الضابط الشاب داكن البشرة الذي ينحدر من الشريحة الأدنى من الطبقة المتوسطة في الصعيد- رئيسًا للجمهورية. وخلال الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، ضم عبدالناصر الصعيد إلى حكومته المركزية على أساس المساواة، ولم تجد المنطقة سببًا للتمرد في هذه الفترة. شيد عبدالناصر سدًّا ضخمًا في الجنوب، وشملت سياساته الاشتراكية إتاحة التعليم الكامل وفرص العمل والرعاية الصحية وحقوق الإسكان الاجتماعي لسكان قنا وبقية مناطق الصعيد، الذين شعروا أخيرًا بالطمأنينة سياسيًّا واقتصاديًّا. ومن المؤسف تعرض الصعيد للتهميش مرة أخرى منذ السبعينيات فصاعدًا، وهو الوضع الذي استمر حتى الوقت الحاضر. في فيلم عادل إمام الكوميدي، الذي تم إنتاجه في مصر في عهد حسني مبارك في الثمانينيات، يتغلب شاب ريفي ساذج بعد هجرته إلى القاهرة الآثمة، على منافسه المخادع بذكاء ويفوز بقلب المرأة التي يحبها من خلال التظاهر بأنه "الخُط".

خلال سنوات حكم مبارك الطويلة من التهميش، ظهر أبطال المقاومة الصعيدية في الدراما التلفزيونية وعلى شاشات السينما أكثر من ظهورهم فعليًّا في الحياة اليومية. في عام 2006، عرض المسلسل الرمضاني "حدائق الشيطان" خلال ثلاثين حلقة الحياة المأساوية لعزت حنفي، قاطع الطريق الشهير من أسيوط، الذي اعتقل في عام 2004، بالتفصيل، من خلال وقائع حقيقية وخيالية على حد سواء. تم تصوير المسلسل بينما كان عزت الحقيقي ينتظر الإعدام في زنزانة السجن، وتم بثه في سبتمبر 2006، بعد أشهر فقط من الإعلان المفاجئ عن تنفيذ حكم الإعدام فيه شنقًا (في يونيو 2006)، والذي تصدر وسائل الإعلام المحلية. تضمنت قصة عزت المثيرة علاقات معقدة مع ضباط شرطة محليين فاسدين ساعدوا في تزوير الانتخابات، ومع أعضاء في البرلمان تعاونوا معه في تجارة المخدرات، بل ومع إرهابيين إسلاميين، قبل أن تتم محاصرته واعتقاله في قلعته المسلحة في إحدى الجزر النيلية. وقد أدى الممثل السوري المعروف جمال سليمان -المعروف بمظهره الرجولي الأسمر وأدواره الرومانسية التي تحظى بشعبية بين النساء في عالمنا العربي- دور عزت سيئ الحظ في هذا المسلسل.

يبدو أن المشاهدين لم يكتفوا من بطلهم المجرم. فقد تمت الاستعانة بنجم الأكشن المصري أحمد السقا لأداء دور عزت حنفي مرة أخرى في فيلم "الجزيرة" الذي حقق نجاحًا كبيرًا عام 2008. في أحد المشاهد الرئيسية في الفيلم، أثناء مداهمة الشرطة لمخبئه في الجزيرة، يصيح حنفي على رجاله:

"من النهارده مفيش حكومة! أنا الحكومة! أنا الحكومة!"[19].

انتشر هذا التصريح السياسي المتمرّد والعنيف على الفور وعلى نطاق واسع بين الشباب في أرجاء البلاد، وأصبح مُلهمًا في ظل سياسة القمع التي مارسها حسني مبارك ونجله جمال وأجهزتهما الأمنية. وعشية الانتفاضة المصرية في العام 2011، أنشأت مجموعة من الشباب القاهريين صفحة ثورية على فيسبوك تحمل اسم هذا التصريح المخيف لعزت حنفي، الذي يعتبره البعض شهيدًا.

يتم فرض الصمت المطبق على الصعيد المهمش اليوم، مثلما اجتاح صمت مماثل سائر أنحاء البلاد. فبدون ثوار حقيقيين، يتم تخيّل وعرض أبطال وهميين من الصعيد يجسدون أعمالًا درامية على الشاشة لتشاهدها الجماهير المكبوتة. وبعد ما يقرب من ثلاثين عامًا من عرضه، أصبح مسلسل "ذئاب الجبل" أحد أشهر الأعمال الكلاسيكية في تاريخ الدراما المصرية، ولازالت حبكته الملحمية تلهم العديد من المسلسلات التلفزيونية الأخرى التي تنتج عن الصعيد حتى يومنا هذا.


1- ألف هذا المسلسل التلفزيوني الكاتب والسيناريست صعيدي الأصل محمد صفاء عامر، الذي كتب عديدًا من المسلسلات المشابهة دراميًّا والتي تدور أحداثها في الصعيد. كما تضمن "ذئاب الجبل" أغاني للشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي. انظر

Abu-Lughod, Lila, Dramas of Nationhood: The Politics of Television in Egypt (Chicago: University of Chicago Press, 2008), 248Google Scholar.

2- للاطلاع على تاريخ أكثر تفصيلًا عن قنا، انظر كتاب زينب أبو المجد: إمبراطوريات متخيلة: تاريخ الثورة في صعيد مصر (القاهرة. المركز القومي للترجمة، 2018).

https://archive.org/details/20231215_20231215_1607/page/13/mode/2up

3- Gran, Peter, “Upper Egypt in Modern History: ‘A Southern Question’?” in Upper Egypt: Identity and Change, ed. Hopkins, Nicholas and Saad, Reem (Cairo: American University in Cairo Press, 2004) Google Scholar; Martina Rieker, “The Sa‘id and the City: Subaltern Spaces in the Making of Modern Egypt” (PhD diss., Temple University, 1997).

4- أبو الفضل الأدفوي. الطالع السعيد الجامع أسماء نجباء الصعيد. (القاهرة، الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1966).

https://archive.org/details/tali3-sa3id

5- للحصول على تحليل كامل للاقتصاد العالمي في المحيط الهندي، انظر:

Chaudhuri, K. N., Trade and Civilization in the Indian Ocean: An Economic History from the Rise of Islam to 1750 (Cambridge, UK: Cambridge University Press, 1985) Cross RefGoogle Scholar; and Janet Abu Lughod,

Before European Hegemony: The World System A.D. 1250–1350 (New York: Oxford University Press, 1989) Google Scholar.

 وجانيت أبو لغد، ما قبل الهيمنة الأوروبية: النظام العالمي بين 1250 و1350(الرياض، جامعة الملك سعود، 2011).

https://archive.org/details/12501350/page/n1/mode/2up

6- محمد بن حامد المراغي الجرجاوي. تاريخ ولاية الصعيد في العصرين المملوكي والعثماني المسمى بـ"نور العيون في ذكر جرجا من عهد ثلاثة قرون". (القاهرة: مكتبات النهضة، 1997).

https://gergahistory.blogspot.com/2017/01/blog-post_34.html

7- Haddad, George A., “A Project of the Independence of Egypt, 1801,” Journal of the American Oriental Society 90, no. 2 (1970): 174CrossRefGoogle Scholar.

8- انظر ليلى عبداللطيف أحمد، الصعيد في عهد شيخ العرب همام (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987)،

https://archive.org/details/Heliopolis1957_gmail_20190127_1335

وأبو المجد، زينب، إمبراطوريات متخيلة، الفصل الأول.

9- Haddad, “Project,” 174.

10- عبداللطيف، ليلى، الصعيدفي عهد شيخ العرب همام، 21.

11- عبدالرحمن الجبرتي، عجائب الأثار في التراجم والأخبار (القاهرة: لجنة البيان العربي، 1958)، المجلد السابع، 234-235.

https://tinyurl.com/3mcyme7c

12- انظر أبو المجد، إمبراطوريات متخيلة، الفصل 3.

13- انظر أبو المجد، إمبراطوريات متخيلة، الفصل الرابع.

14- من هؤلاء المؤرخين علي مبارك، الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة، المجلد 14 (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994)، 95.

 https://archive.org/details/alkhotat-attawfi9iya-aljadida/00/

15- Duff-Gordon, Lucie Austin, Letters from Egypt (London: Macmillan, 1865), 341–42Google Scholar.

16- انظر أبو المجد، إمبراطوريات متخيلة، الفصل الرابع.

17- انظر أبو المجد، إمبراطوريات متخيلة، الفصل الخامس.

18- "خُط الصعيد"، الأهرام، 31 أكتوبر 2010.

19- الشربيني العطار، "من النهارده مفيش حكومة.. أنا الحكومة" عزت حنفي: شمشون الصعيد. صوت الأمة، 23 مايو 2018.

https://tinyurl.com/mry3z48w