ذخائر

كارولين كامل

رسائل عبد الكريم جرمانوس إلى شوقي العالم

2024.04.12

 عبد الكريم جرمانوس المستشرق اليهودي الذي درس في الأزهر

تحت عنوان "القاص نجيب محفوظ في نظر المستشرق عبد الكريم جرمانوس (https://bit.ly/4axd7km)" في عدد مجلة "الأديب" بتاريخ 1 فبراير من عام 1953، كتب جرمانوس رسالة عن ثلاث روايات لمحفوظ؛ هي: "خان الخليلي" و"بداية ونهاية" و"زقاق المدق"، التي أرسلها إليه صديقه الكاتب المصري محمود تيمور، كما يقول في رسالته بعد أن قام محفوظ بتوقيعها. ويعلق على رواية "بداية ونهاية" قائلًا:

"المصريون لم يعودوا أطفالًا، لقد شبوا عن أطواقهم، وقطعوا المرحلة التي كانوا فيها مجرد أشياء يحرص السائحون على مشاهدتها حِرصَهم على مشاهدة الآثار في حوانيت البائعين. ويجب على المصريين الآن أن يروا الحياة على حقيقتها مهما كانت قاسية، مُرة، حزينة؛ فإنها بالتشخيص المخلص لا تستعصي على العلاج".

ويختتم جرمانوس في رسالته التي نشرت في مجلة "الأديب"، بعد أن ترجتمها للعربية، عن الأديب المصري:

"إن الروائيين الذين أنت منهم هم أطباء المجتمع، فاستمر في علاج أمراض المجتمع المصري بقلمك القوي الجرئ، واقبل عذري في الكتابة باللغة الإنجليزية، ولكن إذا شرفتني بالرد، فأرجو أن تكتب بالعربية". 

صدر العدد الأول من مجلة "الأديبفي عام 1942 –المجلة اللبنانية الشهيرة- برئاسة الشاعر والأديب والصحفي اللبناني ألبير أديب، وتوقفت عن الصدور في عام 1983، ومن أشهر الشخصيات الأدبية والصحفية العربية والمصرية التي كتبت في المجلة: الأديب المصري طه حسين، والشاعر اللبناني بشارة الخوري، والقاص والكاتب المصري محمود تيمور، والقاص اللبناني محمد عيتاني، والشاعرة العراقية نازك الملائكة، وغيرهم.

على الرصيف:

في أحد نهارات يوم السبت، عثرت في كرتونة متخمة بالخطابات والأوراق لدى بائع في "سوق ديانا" على مظروف يضم أوراقًا مختلفة، من بينها وثائق مصرية رسمية تعود إلى عام 1929[1]، وخطابات كُتبت باللغة العربية مشحونة بكثير من الأخطاء والغياب التام للهمزات، وبخط يد مهزوز يشبه ما يسطره الأطفال في سنوات تعلمهم الأولى، موقَّعة باسم رجل يدعى: عبد الكريم جرمانوس، وموجهة إلى رجل مصري يُلقبه بـ "العلامة الكبير الصديق العزيز أستاذي المحبوب محمد شوقى أمين العالم". 

لم أكن أعرف هوية أي منهما بعد، ولكن ما أثار فضولي لشراء المظروف هو محتوى الخطابات التي كتبها رجل بعد أن تجاوز التسعين من عمره، يعيش في بلد أوروبي ويناجي الحب والشوق للأصدقاء في مصر، ويؤكد على تمسكه بدوره التبشيري بالإسلام في بلده المجر. 

بمجرد كتابة اسم عبد الكريم جرمانوس على محرك البحث جوجل، تظهر العناوين كالتالي: "جرمانوس.. المجري الذي تمنى مئة عام لخدمة القرآن"، "جرمانوس.. المستشرق عاشق القرآن والعربية"، "المستشرق المجري عبد الكريم جرمانوس واستشعار عظمة الإسلام"، وغيرها من الموضوعات الصحفية التي لا تتناول الكثير عن هويته الدينية قبل اعتناقه الإسلام في ثلاثينيات القرن الماضي، وتركز على اقتباسات من اقواله الشخصية في كتبه عن حياته وسعيه لنشر الإسلام في بلاده.

ما كتبه جرمانوس:

في خطاب مؤرخ بـ 15 ديسمبر 1974 يقول: "سمحت لنفسي بإضافة الهمزات في النص الأصلي، وتصويب بعض الأخطاء، وإضافة علامات الترقيم":

إلى أستاذي العزيز العالم الكبير محمد شوقي أمين أطال الله عمره، 

أخي وأستاذي العزيز، بعد تحياتي القلبية وإجلالي، أخبرك أنني لم أنس الأوقات المحبوبة، عُرفت معك بصفة تلميذك، وأنا لا أزال أحس بعرفان جميلك نحوي، وأشكر من صميم فؤادي خدماتك لتطوير معرفتي في اللغة العربية وأدبها..

إنني استفقت من مرضي الشديد، وأواصل جهودي في سبيل العلم ودعاية ثقافة الإسلام الذي اعتبره واجبًا عليَّ بصفتي المسلم الوحيد المجري.. فقد نشرت دراسات في المجلة الجزائرية "الأصالة" عن حماية فلسفة التشريع الإسلامي، والنظرة الإسلامية إلى الحياة، والإسلام دين عالمي.

ونشرت في مجلة قافلة الزيت (المملكة السعودية، عدد رمضان 1394) عن دور الإسلام في تاريخ الإنسانية، وترجمت إلى اللغة المجرية مسرحية توفيق الحكيم "العش الهادئ" وكل هذه الأعمال أثناء السنة 1974.

في الختام أعتذر عن طول خطابي والأخطاء وأسلوبي والأغلاط الصرفية بما ثقلت دماغك، وسرقت بعض وقتك النفيس، وأرجو أن تتفضل بقبول احترامي ومحبتي دائمًا. 

من مخلصك: حاج عبد الكريم جرمانوس، 30 ذو القعدة 1394.

من هو عبد الكريم جرمانوس؟ 

ولد في بودابست عاصمة المجر باسم: جيولاجرمانوس، لأسرة يهودية، في 6 نوفمبر 1884، خاض رحلة طويلة على درب عشقه للغات، وأتقن عددًا كبيرًا من اللغات الغربية والشرقية، وبدأ رحلته من البوسنة؛ حيث قضى وقتًا برفقة أسرة مسلمة يتعرف منها على الثقافة الإسلامية.

ومنها انطلق إلى تركيا ليتعلم اللغة التركية ويقرأ القرآن، إلا أنه انخرط في حركة "تركيا الفتاة" التي أسسها تيار من المثقفين العثمانيين في بدايات القرن العشرين؛ للإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني، وقُبض على جرمانوس بتهمة التجسس والتخابر وحُكم عليه بالإعدام، وقبل تنفيذ الحكم تدخل القنصل النمساوي وقام بتهريبه. 

تولى جرمانوس مناصب دبلوماسية، بالإضافة إلى عمله في الجامعة أستاذًا للدراسات الشرقية، وفي عام 1934 حصل على دعم مالي من الدولة، وحضر إلى مصر ليتعلم اللغة العربية في الأزهر، إلا أن الشيخ الأكبر محمد الأحمدي الظواهري، الذي تولى مشيخة الجامع الأزهر في عام 1929، لم يسمح بدخول الأوروبيين المعهد.

وبعد كثير من الوساطة وفي نهاية المطاف، سُمح لجرمانوس أن يكون طالبًا لعدة أشهر، وأن يصبح بعد ذلك عضوًا في هيئة التدريس في مسجد الجامعة.

وفي 30 ديسمبر 1957 نظم زملاؤه المصريون "أسبوع محاضرات جرمانوس" على شرفه، وألقى كلمة افتتاحية في أكاديمية العلوم بالقاهرة.

من اللافت في مسيرة جرمانوس: الصداقة التي جمعته بعدد كبير من أهم الكُتاب المصريين في ذلك الوقت، والذين ساعدوه وأمدوه بالمعرفة، أبرزهم: طه حسين، ومحمود تيمور الذي كان أكثرهم قربًا له، ومحمد عبد الله عنان، والشاعر إبراهيم ناجي، وتوفيق الحكيم، وعباس محمود العقاد، وشوقي أمين العالم، أمين مجمع العلوم بالقاهرة، الذي خاطبه جرمانوس في الخطابات. 

تُرجمت أعمال جرمانوس إلى العديد من اللغات حول العالم، وأحدَثُ الأخبار التي يُتيحها الانترنت عنه هو خبر بتاريخ 2017 على الصفحة الرسمية للسفارة الأمريكية في المجر بعنوان: "حفل افتتاح مركز جيولا جرمانوس الثقافي الإسلامي"، الذي حضره السفير الأمريكي، وقال في كلمته: إن المركز الثقافي الإسلامي الذي يحمل اسم العالم الإسلامي المجري الكبير جيولا جرمانوس، سيكون له دور في نشر الأفكار الصحيحة، وتصحيح الأفكار المغلوطة عن الإسلام والمسلمين، كما فعل جرمانوس ذاته عندما سعى وراء الحقيقة ونشر الأفكار الجيدة. 

من هو شوقي أمين العالم؟

ولدعام 1910، ووالده أمين محمد العالم من رجال الأزهر، وشقيقه اليساري الأشهر محمود أمين العالم الذي ولد عام 1922، ويعد أحد أهم أقطاب حركة اليسار في مصر، وتقلد منصب رئيس مجلس إدارة مؤسسة أخبار اليوم. 

عُيِّن شوقي محررًا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة منذ الدورة الأولى لانعقاده في سنة 1934، وانتُخب لعضوية المجمع في سنة 1974؛ ليكون بذلك أول محرر مجمعي يُنتخَب عضوًا في المجمع، ولديه الكثير من الإسهامات التي وصفها المجمع بالبحوث المجمعية عالية القيمة، أبرزها: "جواز التعريب على غير أوزان العرب"، و"تحقيق القول في ها أنا وهأنذا"، و"بواكير الإصلاح اللغوي في العصر الحديث"، و"رأي جديد.. من قديم: المؤنث كالمذكر في ألقاب المناصب العامة"، و"اللغة العربية، هل هي لغة عصرية؟".

وفي خطاب مؤرخ بـ 4 فبراير1977 يخاطب جرمانوس أستاذه محمد شوقي قائلًا:

"إلى العلامة الكبير الصديق العزيز أستاذي المحبوب محمد شوقي حفظه الله..

أخي المحترم، بعد تحياتي القلبية، أعترف بأني أخذت قلمي بيد مرتعشة؛ لأني أحس واجب عرفان جميلك الذي غمرتني به أثناء الساعات المحظوظة حينما كنت تلميذك، وغرفت العلم من روحك وفؤادك الأنيس، وأشكرك على كل حرف من الحروف الذي كتبته من إلهامك.

ومهما أنسَ لا أنسَ أبدًا أنني مَدِين لفضلك وكرمك نحوي، فعندما أخط هذه السطور أحس في خلوتي هنا بتسلية عميقة أني تعلمت اللغة العربية بواسطتك وبصداقتك النفيسة، وأتلذذ الآن بقراءة المتون العربية بسهولة؛ لأنه فُتح أمام عيوني عالم العلم والحضارة الإسلامية، التي كانت هي الوسيلة لتأمين السلم بين الشعوب في الدنيا، شكرًا لله ألف مرة.

أما ما يخص حياتي أنني لا أزال أواصل جهودي في سبيل دعاية العروبة والإسلام، وقبل ثلاث سنوات نُشر كتابي عن تاريخ الأدب العربي، وكنتُ سعيد الحظ أن استطعت ذكر المسرحية الأخيرة لأستاذنا الكبير محمود تيمور ألف رحمة عليه!

وأنت ترى أني لم أهمل واجبي أن أكون مستحقًّا لاسمك بصفتك أستاذي العالم، لكني أشتاق إلى رؤيتك من فؤادي، و إذا لم يكن ممكنًا جسديًا بسبب تقدم سني الى 93 عامًا، والوجع في فخذي اليسرى من التهاب الأعصاب.

تاقت نفسي إلى خطك الجميل بشكل خطاب أخوي لتسلية قلبي، إنك لا تعلم مبلغ السرور والغبطة التي سوف تؤثر في روحي إذا تخيلت أنني أرى وجهك المبتسم من الورق لخطابك، وأظن أنك تجلس إلى جانبي مرة أخرى وأنتَ أستاذي الكريم وأنا تلميذك الشاكر الذى اكتسب نجاحًا بمساعدتك، فإنني أنتظر تلك الدقيقة السعيدة، وأتمنى لك الصحة التامة، وأرجو أن تتفضل بقبول إجلالي ومحبتي.

من تلميذك المخلص: حاج عبد الكريم جرمانوس".


[1] بالإضافة إلى خطابات جرمانوس داخل المظروف الذي يحمل شعار "معهد البحوث والدراسات العربية - 1 شارع الطلمبات بجاردن سيتي"، كانت وثائق شخصية تخص محمد شوقي أمين ذاته، مثل: خطاب دعوته من قبل الإذاعة المصرية بتاريخ 12 يوليو 1951 للحديث عن "أساليب اللغة العربية الآن"، ويطالبه الخطاب بـ"إرسال نص الحديث إلى إدارة الأحاديث بالإذاعة المصرية قبل الموعد المذكور بثلاثة أيام على الأقل، حتى يتسنى الوقت لمراجعته وإقراره". ووثيقة رسمية من وزارة الحربية بعنوان: "طلب الإعفاء للعلوم الدينية"، مُحررة بتاريخ يوم الإثنين 10 يونيو 1929 بإعفاء الطالب محمد شوقي أمين، الذي تعهد بانقطاعه لطلب العلوم الدينية وخدمة الدين وعدم الانشغال بغيرهما، الوثيقة الممهورة بتوقيع الطالب ومأمور قسم الدرب الأحمر في 15 يونيو 1929.