رؤى
عمَّار علي حسنفن السيرة الذاتية
2025.10.20
مصدر الصورة : آخرون
فن السيرة الذاتية
لم يكتمل فن «السيرة الذاتية» نسبيًّا إلا خلال القرن الثامن عشر في أوروبا، لكنه لم يلبث أن تعزز بمرور الوقت، واستوى على سوقه، وصار لونًا أدبيًّا بازغًا في العقود الأخيرة، حتى لدى العرب المعاصرين، متجاوزًا الذي كان لهم في القرون الماضية مما أورده البارزون أو الأعلام عن أنفسهم، وما كتبوه عن غيرهم، في السير والتراجم، وفي الخواطر والتجارب، وفي أدب السفر والترحال.
تجاوز فن السيرة الذاتية عند المحدثين والمعاصرين من العرب الأشكال التسجيلية التي وردت بالحوليات التاريخية، ولم يعد مقتصرًا على ذكر ما كان عليه السراة في العلم والمعرفة والفقه والتصوف والرهبنة والسياسة والأدب والفن، الذي ورد متناثرًا في سطور الكتب أو مكتملًا نسبيًّا عند بعض المؤرخين، خاصة في حديثهم عن الملوك والأمراء وقادة الجند والوجهاء.
كما لم يقف هذا الفن المهم عند حدود تسجيل اليوميات والمذكرات الشخصية، بل توسل بالسرد، مستعينًا بكثير من تقنيات الرواية، بحيث لم يعد يختلف عنه، لدى كثيرين، سوى في تخفيض النزوع إلى التخييل الذي يتطلبه اختلاق شخصيات أو مواقف أو إطلاق مجازات، اللهم في حال ردم بعض ما ضاع من الذاكرة، أو الامتثال للحبكة الفنية أو الدرامية.
كما استلهم هذا الفن من الشعر بعض خصائصه مثل القدرة على الإزاحة والانزياح والتكثيف، إذ إن كاتب السيرة الذاتية أو الغيرية لا يغرق تمامًا في التفاصيل الدقيقة، وإلا اضطر إلى أن يكتب سيرته في مجلدات عدة، وصارت مجرد تسجيل ليومياته، أو وصف باهت لواقعه المعيش.
أسئلة الذات
فكاتب السيرة عليه أن يتخير جيدًا فكرتها المركزية التي تجذب السرد إليها، وتحدد مساره، ويعرف في كل مرحلة من مراحل حياته ما يجب عليه أن يذكره، وما يعد حشوًا يجب تجنبه، وأن يجيب ابتداء، وقبل أن يشرع في الكتابة، على أسئلة من قبيل:
لماذا أكتب سيرتي؟
ما الذي فيها يمكن أن يكون مفيدًا أو ملهمًا لمن يطلع عليها؟
أي اختلاف تطرحه السيرة عن حياة أي فرد آخر من عموم الناس؟ وأي قدر يمكن للسياقات الاجتماعية أن تكون حاضرة فيها باعتبارها الفضاء العام الذي لا يمكن النظر إلى الخاص إلا من نافذته في بعض الأحيان، على اعتبار أن الإنسان ابن عوائده كما يقول ابن خلدون؟
ما التقنية الفنية التي يجب اتباعها في التعبير والبناء خلال نسج خيوط السيرة؟
أي حدود للصدق يجب أن يتحلى بها البوح أو الإبلاغ؟
ما الذي يجب الإفصاح عنه بلا مواربة على اعتبار أن الصراحة ميثاق السير؟
وما الذي يمكن للكاتب أن يمسك عنه تاركًا إياه للقارئ كي يستنتجه أو يستنبطه أو يخمنه، لا سيما إن كان ذكره سيكون مجرد تفاصيل يمكن الاستغناء عنها؟
أي حدود للحيطة في نقل الأحداث من فصول الحياة إلى سطور الورق دون إسهاب ممل، ولا إيجاز مخل، بما لا يجعلنا نغرق في وهم الحقيقة، مع أن الحقيقة نفسها حقائق، والحقيقة الذاتية صدق نسبي، والصدق المحض قد لا يعدو أن يكون مجرد محاولة؟
وكيف لا يتحول التخييل، حال حاجة السرد إليه لإعطائه مذاقًا فنيًّا وجماليًا، إلى كذب أو تجاوز؟
وكيف لا ينطوي الاختيار الذهني لما يجب كتابته على ضرر يمس دور العواطف والسجايا في التعبير الفني؟
وما يجب أن يستعين الكاتب به من مذكرات وشواهد وشهادات ورسائل وإنصات إلى أحياء قريبين منه حتى يردم ما يسقط من الذاكرة مع الزمن؟
وكيف لكاتب السيرة ألا يهمل التطور والنمو والتغير الذي يطرأ على الشخصية مع تقدمها في العمر؟
وإذا كان من فطرة الإنسان أن ينسى، فكيف لكاتب السيرة تذكر أحداث الماضي ووقائعه، وسردها على أنها حقائق قد جرت بالفعل؟
وما الضوابط التي يحتكم إليها كي يصور حياته بلا التواء أو مداراة أو تعمية؟
وما الحدود الفاصلة بين الحقيقي والمتخيل في السيرة؟
وكيف تكون السيرة الذاتية إعادة تأمل في سؤال الوجود، وفي تقصي آثار الماضي البعيد والقريب، أو استعادة واسترجاع كل مستقر في ينبوع الذاكرة من ذكريات وخيالات ومشاهد وصور ورموز مختزنة في الوعي أو اللاوعي، في الشعور أو اللاشعور؟
وبأي ضمير مناسب تكتب السيرة؟ هل «المتكلم/ أنا»، لأنه الأقرب إلى التعبير المباشر عن النفس؟ أم ضمير «الغائب/ هو»، الذي يتوارى فيه الكاتب إلى الوراء ويُحمل آخر مصطنع كل شيء عن معايبه ومحاسنه؟ أم ضمير «المخاطب/ أنت»، الذي يحمل قدرة على المواجهة والاعتراف؟
الإنسان ابن عوائده
في الواقع، وجدتني، منذ صغري، مولعًا بهذا الفن، في شقيه الذاتي والغيري، كصورة جديدة للتجربة والاستكشاف، وكمسار سردي مغاير يجمع بين المتعة والإفادة، ويضم اليقظة الذهنية إلى جانب رهافة الحس، ونباهة الحدس، والقدرة على الترجيح والتبيين، واستعمال أدوات الفن وشروطه في عرض الواقع، وإعطاء نموذج أو أمثولة تعين من يقرأ السيرة على مواجهة تصاريف الحياة وتدابيرها.
قرأت كثيرًا من سير الأعلام، في مجالات عدة، قديمًا وحديثًا، وكان يراودني دومًا خاطر أن أكتب سيرتي، غير مكتفٍ بما ورد منها، أو تسلل مقنَّعًا متواريًا أو مكشوفًا سافرًا، إلى ثنايا سطور رواياتي وقصصي وأشعاري، فكل هذا كان يخضع للتخييل في رسم الشخصيات، وإطلاق الحوار على ألسنتها، وخط معالم الفضاء السردي الذي تتحرك فيه الأحداث، ويتصرف فيه الشخوص، سواء من يتصدرون العمل أبطالًا له، أو أولئك الذين تطل وجوههم من الهامش، لكن أدوارهم البسيطة لا غنى عنها.
لم يغنِ ما كتبته من الروايات والقصص عن التفكير في كتابة سيرتي، ليس فقط لأشرح مكنونات نفسي دون تحرُّج أو تأثُّم، ولا لحنين جارف إلى أيام ولَّت ولن تعود، ولا لمقاومة كل عوامل اليأس والقنوط والإحباط والتطير، إنما أيضًا لتعيين مكاني الذي بلغته وسط زحام الناس، وعلى درب الحياة الشاق الطويل، وكذلك تخفيف العبء عن نفسي بنقل تجربتي إلى الآخرين، ربما يجدون فيها ما يفيد، وما يمتع في آن.
وربما أردت أن أشجع نفسي على أن مواصلة التغلب على الصعاب والانتصار على الشدائد، وما أكثرها، أو أنظر إلى الأحداث الماضية من زاوية جديدة، صنعتها الخبرة أو جاد بها تعمق الوعي مع تقدم العمر وتراكم الخبرات، أو اكتساب فلسفة مغايرة للحياة، لا تقف عند حدود البديهي والفطري، إنما تقيمه بنيانًا آخر، يرى الجزء في إطار الكل، ويدرك حال الفرد في سياق الجماعة، ويفهم ما مضى في ضوء ما يجري الآن وهنا، ويمنح الحقائق المتفرقة، بلا عناية أو رعاية، شكلًا معينًا حاضرًا في الشعور، يُعاد معه تشكيل المدركات، بغية بناء عالم متميز.
وحجتي في هذا كله، وعزائي أيضًا، أن هناك من لا يستصغرون سيرة كتبها صاحبها بصدق، وسعى منها إلى غاية طيبة، مهما كان قدره في عالم الأفكار والآداب والفنون والعلم والعمل، فحياة كل فرد تحوي تجربة تستحق النظر، ليبقى الفرق بين الكاتب وغيره من الناس هو قدرة الأول على سرد سيرته، فلا يتركها تائهة في الحيز الشفاهي الممدود، أو مبعثرة تتهادى أحيانًا في حكايات متناثرة، لا يجمعها خيط واحد، ولا يمسكها مسار متناغم أو متجانس.
في الواقع، إن ما دفعني إلى التفكير في كتابة هذه السيرة هو سؤال وجهه أحد الصحفيين إليَّ ذات يوم، حيث قال: «ملايين الشباب في الوطن العربي يضافون كل يوم إلى قوائم العاطلين، وتكون الهجرة أول الحلول المرشحة أمام هؤلاء اليائسين الباحثين عن حياة كريمة... في تصورك، هل من حلول قريبة؟» فكرت قليلًا ثم أجبته: «ربما لديَّ حل عملي مضمون جربته بنفسي، وهو المثابرة والدأب وبذل جهد مضنٍ، دون كلل ولا ملل، والكفاح بقوة وشرف، والإيمان التام بأن الله لن يضيع أجر من أحسن عملًا، ولذا يجب العمل الدائب والدائم على صقل الموهبة، وتعزيز المهارات، وتحسين القدرات، ويا لحظ من لم يجد تنافرًا بين الهواية والمهمة، وتعاونت في هذا لديه الموهبة والمهارة، وقصد أن يضيف إلى الحياة لبنة جديدة، ولا يكون عالة عليها».
إن هذا السؤال، إلى جانب مواجهة قادحين في شخصي لأسباب مختلفة، كان ما دفعني إلى كتابة سيرتي «مكان وسط الزحام»، التي كنت أعني أن يكون لها عنوان فرعي هو «تجربة ذاتية في عبور الصعاب»، فقد وجدت أبناء الجيل الحالي إما راغبين في تحقيق ثراء سريع بأي طريقة حتى لو كانت غير مشروعة، وإما قانطين يركنون إلى تغييب وعيهم عمدًا، أو يريدون الفرار من بلادنا في أسرع وقت ممكن حتى لو ماتوا في عرض البحار، وأكلت أجسادهم الأسماك، فأردت أن أقول لهؤلاء، من خلال تجربتي هذه، كيف يمكن لطفل فقير مولود في قرية عزلاء منسية، أن يمضى في طريقه بما يرضيه، أو يشعر من حوله بأنه قد أنجز شيئًا، أو حاول أن يترك علامة على درب الحياة الطويل.
قدمت في تلك السيرة تجربة في الانتصار على الشدائد، بطلها كاتبها، الذي كان طفلًا شبه متوحد، متعثرًا دراسيًّا في سنوات التعليم الأولى، ثم لم يلبث أن تفوق ليشق طريقه في التعليم إلى نهايته، ويكون في وسعه أن يحكي لغيره عن أساتذة وقفوا أمامه، وآخرين قرأ لهم، وعن بسطاء الناس الذين تعلم منهم، وكيف واجه الفقر واليأس والغربة والوقوف على مشارف الموت مرات، وكذلك تجاربه في الأدب والفلاحة والمعمار والصحافة والبحث العلمي والحب والجندية والدراسة والصداقة والزمالة، والكفاح من أجل الحرية والإبداع، والترقي في العيش.
كانت محاولة التغلب على الصعب، وما أكثره، الفكرة المركزية، التي انطلقت منها في «مكان وسط الزحام»، والخيط الأساسي، الذي انتظمت على ضفافه، وطوقته دون أن تخفيه، ولهذا أتت من رحلة صاحبها بكل ما يعزز هذه الفكرة من وقائع أو حقائق، وكل ما يجعل هذا الخيط متينًا من أحداث وتفكير وتعبير وتدبير.
وقد آثرت أن يكون السرد بضمير المتكلم، مستفيدًا من تقنية الرواية، ليكون النص قريبًا من النفس، متوسلًا بالتداعي الحر أو الاستطراد والاسترجاع، كما تهدي هذا الذاكرة، وبذا يصل أسرع إلى ذهن القارئ وقلبه.
لقد أخذ كتاب «مكان وسط الزحام» من فن الرواية الطريقة أو الأسلوب السردي، وأحيانًا البنية أو المعمار والتشكيل، وأخذت من السيرة ما يجب أن تنطوي عليه من صدق، ووصف للواقع، وشرح للتجربة الذاتية كما مر بها صاحبها، أو تراءت له.