عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

هوامش

راشدة رجب

مهرجان القاهرة السينمائي 46.. عن غزة وأشياء أخرى

2025.12.06

مصدر الصورة : آخرون

مهرجان القاهرة السينمائي 46.. عن غزة وأشياء أخرى

 

لم يكن ممكنًا بعد عامين من الحرب في غزة والإبادة الإسرائيلية البشعة لشعب أعزل ألا تتناول بعض أفلام مهرجان القاهرة السينمائي 46 غزة وحكاياتها.

وربما أصعب هذه الحكايات وأكثرها تأثيرًا هي مأساة الطفلة الفلسطينية "هند رجب" ذات السنوات السبع التي ظلت حية لمدة ثلاث ساعات في سيارة على طريق محاصر بمنطقة "تل الهوى" في غزة، وسط خمس جثث لأسرة خالتها، أم وأب وثلاثة أبناء، قبل أن تقتلها نيران الاحتلال الإسرائيلي هي والمسعفين الذين توجهوا لإنقاذها رغم إعطاء الاحتلال الضوء الأخضر لمرورهم.

تحكي لنا المأساة المخرجة التونسية كوثر بن هنية في فيلمها "صوت هند رجب" (The Voice of Hind Rajab)، الفائز بعدة جوائز في مهرجانات دولية وتم عرضه في ختام المهرجان، فنتتبع لحوالي ساعة ونصف الحوار الذي دار بين المتطوعين في الهلال الأحمر الفلسطيني والطفلة هند لتهدئتها.

وبينما هند محاصرة بالدبابات الإسرائيلية، المُشاهد محاصر في مركز لتلقي الاستغاثات تابع للهلال الأحمر الفلسطيني يعيش القلق والخوف من خلال المكالمات شبه المتواصلة مع الطفلة والمحاولات المتعددة التي يشوبها العجز والخوف والبطء لإنقاذها. يتصاعد الحوار إلى أن تستغيث الطفلة "تعالي خديني" وإدراكها أن المحيطين بها موتى وليسوا نائمين كما كانت تظن في البداية.

وبينما يفشل الهلال الأحمر في إنقاذ هند، تنجح عدة شخصيات تمثل أبطال الفيلم الوثائقي "من لا يزال حيًّا"(Who Is Still Alive)، وهو إنتاج فرنسي سويسري فلسطيني، في الهروب من جحيم غزة والانتقال للإقامة في مصر. ويقدم المخرج السويسري نيكولا واديموف معاناة هذه المجموعة من الشخصيات بشكل مؤثر في فيلمه الذي تم تصويره في جنوب إفريقيا، لكي ينجح في جمع تلك الشخصيات في مكان منعزل ويستطيعوا البوح بما تكنه نفوسهم كما أكد المخرج في الندوة التي أعقبت الفيلم.

لكن معظم مشاهد الفيلم تدور في مسرح، فلا يميز المشاهد في أي بلد تم التصوير، وتتميز بإضاءة خافتة تعكس الأجواء الحزينة وتسمح بالتغلغل في العوالم الداخلية للشخصيات. ترسم الشخصيات مربعات على أرض المسرح بالطباشير يمثل كل مربع منطقة من مناطق غزة المختلفة من الشمال إلى الجنوب وتقف كل شخصية في المنطقة التي أتت منها لتذكرنا بأدوات وتكنيك المسرح التجريبي. ومن ناحية أخرى، يتبنى الفيلم فن الحكي كوسيلة أساسية للتعبير، وبهذا فإن الفيلم أشبه بمسرحية مصورة تواجه فيها الشخصيات جمهور الشاشة من موقعها على الخشبة وتحكي قصتها مع الحرب والدمار. لكن الصدق التام، ومنح الشخصيات وهم البشر الحقيقيون الذين مروا بالمعاناة الفرصةَ للتعبير عن مأساتهم، يغفر للفيلم استخدام السينما كوسيلة أسرع وأسهل في الوصول إلى جمهور أكبر من المسرح الذي يناسب أكثر أسلوب الحكي. لقد اعتدنا رؤية مشاهد الحرب والدمار وعرفنا الإنسان الفلسطيني رقمًا في أعداد الشهداء والمصابين ولكننا لم نسمع حكايته المؤلمة بكل تفاصيلها الإنسانية بصوته. وربما أكثر القصص المؤثرة هنا هي قصة الشاب الناجي الوحيد من أسرته الذي تم إنقاذه من تحت الأنقاض بعد ساعات طويلة.

وبينما عرفنا كيف يموت الناس في غزة، اختار صانعا فيلم "كان يا ما كان في غزة" (Once Upon a Time in Gaza) المخرجان الفلسطينيان عرب وطرزان ناصر أن يصورا كيف كان الناس يعيشون في غزة قبل الحرب وبالتحديد عام 2007. الفيلم يقدم صورة لفساد السلطة وضياع الأحلام وانعدام الفرص في حياة مغلقة يحكمها حصار الاحتلال الإسرائيلي، من خلال ضابط فاسد يقتل تاجر مخدرات دون اتباع الطريق القانوني بالقبض عليه ومحاكمته. وبعد عامين، يحاول الضابط قتل "يحيى" صديق التاجر، لكنه يتمكن من تقييد وثاقه وتعذيبه وقتله وتُقيَّد الجريمة ضد مجهول. إلا أن رصاصة خاطئة تصيب "يحيى" أثناء تصوير فيلم سينمائي تم اختياره بطلًا له بالمصادفة.

إن يحيى الخريج الجامعي لا يجد عملًا سوى بائع في محل ساندويتشات يمتلكه "أسامة" تاجر المخدرات ويضطر إلى مساعدته، وعندما يقرر التوقف، يُقتل أسامة. وبينما يبتسم له الحظ قليلًا باختياره بطلًا لفيلم سينمائي تنتجه وزارة الثقافة، يكون عليه الدفاع عن حياته والتخلص من الضابط الفاسد. لكنه في النهاية يفقد حياته لأن الموت هو مصير كثير من الغزيين بطريقة أو بأخرى.

معظم مشاهد الفيلم، الذي تم تصويره في العامين الأخيرين في الأردن، مشاهد ليلية سواء داخلية أو خارجية وتدور في أماكن ضيقة وكئيبة لتعكس سوداوية الحياة وعدم وجود نقطة ضوء أو أمل. وبينما لم يقدم الفيلم أبطال المقاومة بشكل مباشر فإنه يقدمهم من خلال الشخصية التي يلعبها "يحيى" بطل "الفيلم" الذي يصور داخل الفيلم.

وبينما يصدمنا اختيار هذا التوقيت، من الناحية السياسية في الواقع، لنرى فساد السلطة في غزة، فإننا قد نجد العذر لصناع الفيلم إذ ربما يحلمون ببناء غزة جديدة بشكل سليم.

حصل مخرجا الفيلم على جائزة الهرم الفضي لأفضل مخرج، وجائزة أفضل فيلم عربي طويل وحصل "أسامة" أو الفنان الأردني مجد عيد على جائزة أفضل ممثل في المسابقة الدولية للمهرجان.

وبينما يطغى الاحتلال على حياة سكان غزة قبل الحرب ويضيِّق عليهم الحصار، تنعكس محاولاته لطمس الهوية الفلسطينية من خلال طمس دور واسم "حسين"، آخر عامل تشغيل "البروجيكشن" أو آلة العرض في سينما جنين في الضفة الغربية، من جانب القائمين على تجديدها في الفيلم الوثائقي "حبيبي حسين".

فنحن طوال الفيلم نتتبع شغف "حسين"، العامل البسيط الخمسيني العمر، بعمله من خلال لقطات متوالية لمحاولاته المضنية لتشغيل آلة العرض حتى مغامرته في الذهاب إلى إسرائيل للحصول على الأجزاء المفقودة. ورغم ذلك يتم تجاهل جهوده ولا يمنح شهادة تكريم بينما يحصل عليها الجميع بمن فيهم أحد أفراد الطاقم الألماني الذي يقوم بتجديد السينما ويتعلم من "حسين"، ليعكس المشهد ظلم الإنسان الفلسطيني وعدم إنصافه ليس فقط من إسرائيل بل من العالم الخارجي. وعلى جانب آخر يتم هدم السينما ليحل محلها مول تجاري فجأة وبدون سابق إنذار ما يعكس الاضمحلال الثقافي وطغيان الجانب المادي على الثقافة في مجتمعاتنا العربية، فنحن أحد هذه المجتمعات التي عانت إغلاق دور العرض السينمائي، فلم يقتصر الأمر على فلسطين كما أشارت ندوة الفيلم.

ومُنح مخرج الفيلم أليكس بكري جائزة شادي عبد السلام لأحسن فيلم في مسابقة أسبوع النقاد.

أما الفيلم الوثائقي اللبناني "ثرية حبي" إخراج نيكولا خوري، الذي حصل على جائزة أفضل فيلم وثائقي في المهرجان، فهو رقيق وحالم كقصيدة شعر. يتسلل في رقة إلى حياة الفنانة ثرية بغدادي أرملة المخرج اللبناني مارون بغدادي أثناء حياته وبعد رحيله بثلاثين عامًا، فيعكس مشاعرها وخواطرها. ويمزج مشاهد من فيلم "حروب صغيرة" 1982 من إخراج مارون بغدادي، وهو الفيلم الذي شهد أول لقاء له بزوجته كممثلة وراقصة.

وتتكرر المشاهد الحالمة لثرية التي تنطلق بها السيارة دون قائد على جبال لبنان وكأنها تترك نفسها للأقدار تقودها حيث تشاء. كما تتكرر بعض مشاهد الرقص الحديث الجميلة لثرية الراقصة الحالمة.

تتحدث ثرية عن أنها لم تعِش، فبعد مارون بغدادي أفكارها تدور حول حياتها معه وأثناء حياتها معه كانت تدور حوله. إلا أن الفيلم عكس بنجاح روح ثرية الرقيقة الجميلة المحبة الفنانة.

وتتشارك "ماريا أنخيليس" بطلة فيلم "زنقة مالقة" (Calle Malaga) مع ثرية بغدادي في حب الحياة. فـ"أنخيليس" الإسبانية، في السبعينيات من العمر وولدت وتعيش في طنجة، ترتبط مع جيرانها وسكان الشارع بعلاقات طيبة ووثيقة وتعامل الجميع بحب ومودة. وتتكرر المشاهد التي تعكس حب الحياة مع أنخيليس وهي تضع طلاء الأظافر الأحمر، وترتدي الفساتين ذات الأزهار الحمراء، وتستمع إلى الموسيقى وتتهادى معها وهي تطهي الطعام.

 وبسبب مشاكلها المالية، تقرر ابنتها، التي تحضر فجأة من إسبانيا، أن تبيع الشقة التي كتبها والدها باسمها والتي تعيش فيها أنخيليس وترتبط بشدة بها وتخيرها إما أن تعيش معها في إسبانيا أو تعيش في دار مسنين للإسبان في طنجة.

تنجح المخرجة من خلال مشاهد قليلة، مثل حجرة أنخيليس في دار المسنين، التي تفتقد جمال وعراقة شقتها، وإصرار "كوافيرة" الدار على قص شعرها، في التأكيد على الفارق بين حياة أنخيليس في منزلها وحياتها الجديدة. ولهذا نتعاطف معها عندما تقرر العودة إلى شقتها وتدفع ثمن استعادة أثاثها الذي باعته ابنتها قطعة قطعة.

يزداد حب أنخيليس قوية الشخصية، للحياة وإقبالها عليها عندما ترتبط بعلاقة حب مع التاجر الذي اشترى أثاث شقتها وتفتح شقتها لمشاهدي مباريات كرة القدم لتكسب المال اللازم لاستعادة أثاثها وإدارة شؤون حياتها. ورغم أن صناع الفيلم اختاروا أن يتركوا نهايته مفتوحة فلا نعرف إذا كانت ابنتها قد أصرت على بيع الشقة أم انصاعت لرغبة أمها في البقاء فيها، فإن الفيلم دعوة لحب الحياة والتمسك بها.

وللأسف لم يحصل الفيلم المغربي الرائع "زنقة مالقة" المشارك في المسابقة الدولية على جوائز كان يستحقها بجدارة.

أما الفيلم الكرواتي الإيطالي الوثائقي "فيومي أو الموت" (Fiume O Morte!) إخراج إيجور بيزينوفيتش والمشارك في قسم البانوراما الدولية والذي يمثل كرواتيا في مسابقة الأوسكار لأفضل فيلم عالمي، فهو فيلم رائع بجميع المقاييس. الفيلم يتناول حكم الشاعر والعسكري الإيطالي الفاشي دانو نتسيو لمنطقة "فيومي" الأوكرانية، والتي يُطلق عليها اليوم "ربيكا"، عام 1919.

يمزج الفيلم بين الصور والمشاهد المسجلة بالأبيض والأسود والمشاهد الحديثة الملونة لنفس الحدث ويُقدمها المخرج كلعبة بشكل ساخر يشبه الكوميديا السوداء. بل يعرفنا المخرج بصوته مباشرة بأسماء أكثر من شخصية تلعب دور نتسيو في مراحل متعددة من حياته. ويبهرنا إيقاع المونتاج السريع واللقطات من داخل "فيومي" لعتبات منازل متعددة تحمل السنوات الأولى من القرن العشرين قبل حكم نتسيو. وكنوع من التعبير الساخر يوظف المخرج الموسيقى المبهجة السريعة لتصاحب مشاهد الفيلم، كما حرص على تصوير المشاهد في أماكنها الحقيقية وسعد بمشاركة الأهالي في مشاهد الفيلم.

أما فيلم "اليعسوب" (Dragonfly)، إخراج بول أندرو ويليامز، من المملكة المتحدة والذي حصل على جائزة الهرم الذهبي لأفضل فيلم، فهو يتناول أثر الصداقة في حياة كبار السن وما يمكن أن تؤدي إليه الحماية الزائدة لهم من مشاكل. تُقدم القصة في إطار شبه بوليسي شائق يتصاعد لينتهي بمأساة وجريمة قتل توقَّع المشاهد أن تكون ضحيتها السيدة المسنة "إليسي"، خصوصًا وأن جارتها وصديقتها الجديدة الشابة "كولين" التي أصبحت ترعاها شخصية غير سوية، وليس ابنها. ومع الإيقاع السريع احتفظ الفيلم بشغف المشاهد وانجذابه حتى اللقطة الأخيرة. ومن خلال أكثر من مشهد، منهم مشهد "كولين" خلف باب المنزل تستمع لمكالمة "إليسي" وتعرف أن ابنها هو المسؤول عن قتل كلبتها ومشهد نهضة "إليسي" فجأة بفزع و"كولين" تجلس على سريرها منتصف الليل، في جعل المشاهد يتوجس خيفة من نهاية مفزعة للأحداث. وقد استحقت بطلتا الفيلم، الشابة "أندريا رايزبورو" والسيدة المسنة "بريندا أندرو ويليامز" جائزة أحسن ممثلة مناصفة عن أدائهما في الفيلم.

ومثلما احتفظ فيلم "اليعسوب" بشغف المشاهد، احتفظ به الفيلم التركي "بينما نتنفس" (As We Breath)، للمخرج سيموس ألتون، الذي حصل على جائزة الهرم البرنزي - جائزة لجنة التحكيم الخاصة. والفيلم يناقش قضية الحرائق المنتشرة في تركيا والضغوط المالية المختلفة وأثرها في "إسما" ذات العشر سنوات، التي تعيش هي وأسرتها في إحدى المزارع التي توشك النار على التهامها. وفي أحد المشاهد تذهب إسما ليلًا لتشاهد النيران وتعرف بنفسها كيف تكون. لا تصارح الفتاة والدها -في أسرة تفتقد وجود الأم- بمخاوفها ولكنها تستغل فرصة غيابه عن المنزل لتضرب أنفها ضربة كبيرة وتنزف، ونلاحظ افتقادها حضن الأب الذي تتمسك به بمجرد أن يعود ويحضنها ويحملها إلى المستشفى، في إشارة من ناحية إلى الضغوط الشديدة التي تعلم وتشعر بها الصغيرة وإلى افتقادها الاهتمام الذي يوجه إلى أخيها الذي ينزف من أنفه باستمرار، فربما تحظى مع هذا النزيف بنفس الاهتمام. وينتهي الفيلم مع بدء عام دراسي جديد، ولا يزال رب الأسرة في منزله المهدد بالاحتراق وكأنه ينتظر أن يبتلعه الموت مع أبنائه إذ إنه لا يجد حلًّا لتوفير منزل آخر لهم.

أفلام أخرى رائعة متعددة عرضها مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته 46، منها الفيلم الفرنسي البولندي الروائي "شوبان، سوناتا في باريس" (Chopin, A Sonata in Paris) إخراج ميكال كفيتشنسكي، والوثائقي "الحياة بعد سهام" إخراج نمير عبد المسيح وكلاهما من قسم العروض الخاصة، والفيلم الهولندي البلجيكي "في منزل أهلي" (In My Parents' House) إخراج تيم إلريش الذي حصل على جائزة خاصة من لجنة تحكيم مسابقة أسبوع النقاد، والإيطالي "أشقاء" (Siblings) إخراج جريتا سكارانو، والهولندي البلجيكي "أرض القصب" (Reedland) إخراج سفين بريسر وكلاهما من المسابقة السابقة، والفيلم المدهش "صديق صامت" (Silent Friend) في إطار تكريم المخرجة المجرية إلديكو إليدي وغيرها.