الحركة النسوية المصرية

هبة عبد العليم

نسويات في المطبخ

2024.03.12

تصوير آخرون

نسويات في المطبخ

منذ عامين تقريبًا، بينما تشتعل الأجواء حماسة استعدادًا لمباراة مصر والسنغال في التصفيات المؤهلة لكأس العالم 2022، شاركت أمنياتي للفوز في المباراة بإحدى الصفحات العامة المتخصصة في متابعة أحداث كرة القدم، لست خبيرة في اللعبة، ولا أدعي أنني أعرف تفاصيل الأدوار والنقاط والتصفيات، وربما كان ردي يحتوي على الكثير من الأخطاء، إلا أنني تأثرت جدًّا حينما علَّق أحد على ما كتب قائلًا: "ارجعي على المطبخ".

رغم سخافة الرد الذي وُجِّه إليَّ، فإنها لم تكن المرة الأولى التي أسمعه فيها، فهو يحاوطني طيلة الوقت، في بعض الأحيان أتقبله كمزاح عادي موجه لسيدة تعمل بالأساس في مجال الطبخ، وفي بعض الأحيان لا أستطيع تقبله كتلك المرة.

بدأت الكتابة في الطبخ منذ ما يقارب العشر سنوات، في البداية كانت خطواتي مترددة، لا أملك الخبرة أو الدراسة التي تؤهلني لذلك، فقط أملك شغفًا ومئات الوجبات التي أتناولها وحيدة. 

تخرجت في كلية التجارة وعملت كمحاسبة، إلا أنني زهدت مكتبي والحسابات، ووجدت ملاذي في المطبخ. متران في مترين، تقبع بينها دنياي وأحلامي، وتحتوي على كل طاقاتي المتفجرة، بدأت الطبخ كمن يحتمي بجدار صلب لن يخذله أبدًا، تعلمت كيف أطبخ، وتعلمت كالساحرة كيفية مزج النكهات، وتعلمت كيف أختار المكونات، وكيف ومتى أستخدم النار والحرارة والبرودة؛ لأُخرِج أقصى ما في المكون من نكهة، تتفجر فور ملامستها للساني، متحللة لعناصرها الأولية من حلاوة ومرارة وملوحة ومزازة.

جربت كثيرًا؛ فشلت حينًا وألقيت الصحن في سلة المهملات، نجحت في أحيان أكثر فشاركت الوصفة مع عشرات الصديقات. الصديقات طلبن مني أن أنشر ما أجربه على الملأ، نشرت وصفات على صفحتي على الفيس بوك فتناقلها عدد أكبر، دونتها في موقع خاص بي، ودرست بشكل حر، الموقع الخاص صار مواقع متخصصة في الطبخ وفي شؤون المرأة، والصديقات صرن آلاف المتابعات في مصر والإمارات والسعودية وليبيا والجزائر والمغرب.

والآن زاد عدد متابعي وصفاتي عن المليون. 

لذلك فإن تعليق "ارجعي على المطبخ" لم يكن من التعليقات التي يمكن أن تضايقني؛ فالمطبخ مكمن قوتي بالأساس، إلا أن التعليق هذه المرة كان محمَّلًا بإهانة لم أستطع تجاوزها، محمَّلًا بتقليل مني ومن قدرتي على الاهتمام بشأن عام تم اعتباره بشكل اجتماعي شأنًا ذكوريًّا ككرة القدم. 

وتساءلت: لِمَ تم اعتبار المطبخ شأنًا نسائيًّا، وكرة القدم شأنًا ذكوريًّا. 

تبدأ المشكلة أولًا من المجتمع الذي يكرس اللون الوردي للمواليد من الإناث، بينما الأزرق للذكور، ثم يَفصِل في محلات الألعاب بين ألعاب الفتيات التي تتنوع بين العرائس، ومصغرات البيوت، ومجسمات أميرات ديزني؛ أي: ما يكرس ببساطة لتنشئة الطفلة لتكون أمًّا وراعية منزل رقيقة وحالمة، بينما ألعاب الأولاد لا تخرج عن ثلاث فئات: ما يكرس لتنشئته كرياضي كالكرات، أو محارب كالمسدسات والبنادق وألعاب القتال، أو تزرع العنف في أعماقه بمجسمات أفلام الحركة والأبطال الخارقين.

ثم يترسخ الأمر اجتماعيًّا عبر اللغة المستخدمة في الخطاب العام، الذي يوجه كل ما له علاقة بكرة القدم للذكور، باعتبارها رياضة عنيفة تُلعَب خارج البيوت، ويوجه كل ما له علاقة بالطبخ للإناث المقيمات في البيوت والقائمات على شؤونها، خاصة ما يتعلق بأمور الرعاية الأسرية، وعلى رأسها عملية الطبخ. 

يظهر هذا التمييز اللغوي بوضوح في كتابة وصفات الطبخ، فنجد أن الخطاب دائمًا يوجه للأنثى باعتبارها "الطباخة" التي ستقوم بعملية "الطبخ" (ضعي ـ قَلِّبي ـ اعْجِني ـ اخبزي)، لا يعجبني الأمر؛ لذا رأيت أن الحل عندما يبدأ عند تغيير التعبير اللغوي المستخدم، وقررت عند الكتابة للمواقع التي أنشر بها وصفاتي أن أكتبها مبنية للمجهول (يوضَع ـ يقلَّب ـ يُعجَن ـ يُخبَز).

أرسل الوصفات لمحررتي، فتعيدها إلي وتطلب أن أعيد كتابتها بما يتناسب مع توجيه الأمر للأنثى التي تقوم بالطبخ، أغضب وأعترض بشدة، أرسل رسالة طويلة لمحررتي أشرح فيها أن الطبخ نشاط إنساني غير محدد الجنس، وأن الرجال تطبخ كما تطبخ النساء، بل إن أمهر الطهاة وأشهرهم على مستوى العالم من الرجال. وبالتالي فإن قَصْر الطبخ على المرأة كنشاط نسائي به تمييز ضد المرأة، وإننا كموقع نسائي يجب أن نقاوم هذا التمييز.

ترد محررتي بكلمتين: لن يُنشَر المقال ما لم يُعدَّل. ليبقى الوضع كما هو.

على كل حال لم أكن الوحيدة التي أمرها رجل ما في فضاء عامٍّ بأن تعود للمطبخ، نساء كثيرات تعرضن لمثل هذا الموقف السخيف، فالرجل يعتقد أنه المسيطر على المجال العام، وأن من حقه إقصاء النساء عن التفاعل فيه، فيأمرها بما يعتقد أن يَحد من دورها الاجتماعي، ويقوم بفرض سيطرته بتحديد الإطار الذي عليها ألا تتجاوزه. 

أفتح نقاشًا مع الأستاذة روزانا ناجح الباحثة والناشطة النسوية، التي تتساءل: هل إنهاء أي نقاش -خاصة إذا كان يحتوي على مشاركة معلوماتية من السيدات، أو إقرار مجموعة من الحقائق– بجملة: "يلا على المطبخ"، هل يقر بحقيقة أن المرأة أقل قيمة؟ هل انشغال الناس بالطبخ يمنعهم من اكتساب معارف أخرى؟

فالطبخ حرفة ومهارة تحتاج لبذل مجهود لتعلمها، وليست أمرًا جينيًّا مكتسَبًا مع جينات الأنوثة، وبالتالي يصبح قيام المرأة به أمرًا طبيعيًّا.

ثم تضيف: "لو كانت المرأة تعمل بالطبخ بشكل أساسي، وأعاقتها مهارتها به عن اكتساب مهارات أخرى فذلك أمر بديهي، فليس كل الناس متخصصين في كل شيء. وبالتالي فإن الإهانة لا تُعَد منطقية؛ حيث تتنوع المهارات المكتسبة طبقًا لطبيعة الأشخاص واهتماماتهم والأعمال التي يقومون بها.

الطبخ مهارة يمكن اكتسابها؛ فالسيدات لا يطبخن بطبيعتهن، وإنما باستخدام وصفات ثابتة، وتكرار تنفيذ الوصفات، ممَّا يمنح الفرد رجلًا كان أو امرأة أفضلية في هذا المجال. 

وبالتالي فإنه من غير المقبول استخدام المهارات المكتسبة في المطبخ في إهانة المرأة، والتقليل منها ومن امتلاكها لأدوات النقاش. 

أما المترجمة نرمين نزار -التي قامت مؤخرًا بترجمة وتحرير كتاب "كيف تصنع حركة نسوية من المطبخ" بالاشتراك مع حسين الحاج- فتقول:

يفترض بعض الرجال أن المطبخ مكان لا يحتاج للتفكير، أو لإنتاج آراء مغايرة للسائد، بالتالي حَصْر دور المرأة في القيام بالمهام المتعلقة به يضعها في زاوية آمنة تحجب إزعاجها للرجل، أو مزاحمته في المجال العام.

أما عن كتابها فتقول: إنه يتحدث عن إعادة الإنتاج الاجتماعي، وهي العملية التي من خلالها نعيد إنتاج الأنماط والأدوار الاجتماعية. بمعنى: أن المجتمع أقر بأن تقوم المرأة بالأعمال المنزلية في مقابل قيام الرجل بالعمل خارج المنزل أو ما يُعرَف اقتصاديًّا بقيامه ببيع مهاراته وقوته في سوق العمل، وليتمكن من بيع قوته ومهارته عليه أن يجد المأوى الذي يمكنه من تجديد تلك القوى، وتوفير ذلك المأوى هو الدور الذي تقوم به المرأة.

وفي حالة عدم وجود امرأة تقوم بذلك الدور فسوف يقوم به الرجل؛ مما يستتبع إنقاص قوته التي يبيعها في سوق العمل، وبالتالي إنقاص دخله النهائي.

أما عن كلمة "ارجعي للمطبخ" فترى نرمين أنه رغم ما بها من تسفيه من رأي المرأة، واعتبار أنها لا تصلح للمجال عام، وأن دورها ينحصر في المجال الخاص بما يشمل المطبخ وأعمال الرعاية المنزلية، فإنها غير كافية لإزاحة المرأة عن المجال العام. 

وتؤكد أن محاولة التقليل من دور المرأة موجودة بالفعل حتى لو لم تُقَل لها تلك الجملة. 

فالعديد من السيدات قمن بوضع نظريات اجتماعية مهمة، إلا أنها غير مسموعة، في مقابل تلك النظريات التي وضعها رجال، كذلك كل الكشوف العلمية والاختراعات التي قامت بها السيدات. 

ثم تضيف أن المرأة تتعرض طول الوقت لعملية إخضاع لتغييب صوتها ورأيها عن المجال العام، ويُستخدَم الإنجاب والأعمال المنزلية والضغط الاجتماعي لدفعها إلى ذلك الطريق، وإقصائها عن المجال العام. وفي الوقت نفسه يتم نبذها إذا لم ترضخ لكل تلك الضغوط المجتمعية.

ويذكِّرني كلام نرمين بسيدة غريبة جلست بجواري في مترو الأنفاق، كانت مرهقة متعبة عائدة من يوم عمل طويل، أراحت ظهرها على المقعد، وقالت فجأة بدون سابق معرفة: "ضهري واجعني، وهارجع أطبخ لأخويا؛ يعني: يرضي مين أكون أنا باشتغل، وهو بيشتغل، وهو يرجع البيت يرتاح، وأنا أرجع أطبخ عشان هو ياكل! ولو ما طبختش يتقمص وينام من غير عشا وما يرضاش يروح الشغل تاني يوم، ويلومني كأني أنا السبب؟!".

أتأمل ما قالته روزانا، وما أشارت إليه نرمين، وحديث السيدة الغريبة التي تمثل شريحة واسعة من النساء على مستوى العالم، فأجد تقاطعات بين حياتي الشخصية ومحاولة حصرها في تلك المهمات، وبين رغبتي أنا ورؤيتي للأمور. 

أتذكر أنني احترفت الطبخ كمهنة أصلًا كمحاولة للتمرد على حصر دوري الاجتماعي في القيام بمهامه، فتعلمت قواعده العلمية، واحترفت مهاراته، واخترت أن يكون عملًا أكتسب منه أجرًا، حتى أصبحت جملة "يلا على المطبخ" تشير لتوجهي للمكان الذي تكمن فيه قوتي وقدرتي على اقتحام المجال العام. 

على كل حال لم تعد تشغلني آراء المحررات بعد أن تجاوز عدد متابعي صفحتي مليون متابع؛ حيث أكتب وصفاتي وأقدمها للجميع؛ للنساء والرجال. في الحقيقة الكثير من الرجال اللطيفين يأتون ويسألون النصيحة عن: ماذا أطبخ لزوجتي في مناسبة خاصة؟ أو أريد أن أساعد أمي، أو حتى أعيش وحدي ويرهقني شراء الطعام الجاهز وأريد أن أطبخ. 

ألمس تغير المجتمع ببطء وهدوء، ربما لا يتغير المجتمع اليوم، أو في العقد الحالي، أو حتى في القرن القادم، إلا أن التغيير قادم لا محالة.

وكل هؤلاء الرجال الذين أقصتهم محررتي من وقفة المطبخ أتوا إليَّ طلبًا للنصيحة. 

هي خسرت، وأنا كسبت.